الأسباب الخلفيّة للمعركة المشتعلة حول طاعة المرأة زوجها | أسرة
كثيرةٌ هي القضايا التي تشتعل فيها معارك لم تكن ذات حضورٍ كبيرٍ في أزمنة ماضية في الفضاء العامّ بين الرّجال والنّساء، ولم تكن تراها كثيرٌ من النساء معارك وجوديّة، لكنّها غدت في الواقع المعاصر حاضرةً بقوّة في النقاشات والحوارات والتآليف المختلفة؛ ولسنا نبالغ إن قلنا: إنّ من أشدّ هذه المعارك حضورًا المعركة المتعلّقة بقضيّة طاعة المرأة زوجها في الشّريعة الإسلاميّة.
وجلّ هذه المعارك تناقش تفاصيل الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالقضيّة المطروحة معزولةً عن خلفيّاتها وأسبابها التي دعت إلى اشتعال المعركة من حيثُ الأصل، ودون تحديد منهجيّة واضحة للتّعامل مع المسألة، فتبقى هذه النقاشات تدور في حلقة مفرغة كونها تطرحُ معزولةً عن السّياقات الذّهنيّة والتّصورات الفكريّة الممتدّة إلى أعماق العقل الجمعي.
وفَهْمُ الأسباب يمثّل نصفَ الطّريق في التّعامل المثمر مع أيّة مشكلة قائمة، فكريّةً كانت أو سلوكيّة. ولعلّنا هنا نقف على واحد من أهمّ الأسباب التي تُشعل هذه المعركة وتُذكي نارها، وهو: إخضاع النّص الشرعي لفكرة “المساواة التّامّة” وفق المفهوم الليبراليّ.
المساواة وتأويلاتها
في هذا الواقع الذي تهيمن فيه اللّيبراليّة الجديدة على الواقع السّياسي العالمي، وتمارس هيمنتها الفكريّة بحكم القوّة التي تتسمّ بها؛ غدت شريحة غير يسيرة من المسلمين تتبنّى دون أن تشعر مخرجات الفكر اللّيبراليّ في تصوراته الفكريّة، وهذا ما تفعله القوّة في زمن الانهزام الحضاريّ، إذ تتسرّب أفكار القويّ ومَن يملك وسائل القوّة إلى الوعي الجمعيّ للبلاد والمجتمعات التي تفقد انتماءها الحضاريّ، أو تعيش حالة انبهار بالآخر، أو تخضع في مناهجها ووسائل إعلامها للفكر المناقض لمرجعيّتها.
وقد بيّن ابن خلدون أنّ المغلوب يرى أنَّ مَن غلبَه يملك الحقّ والحقيقة، فيغدو عند المغلوب تلازم بين القوّة والحقّ، فيعتقد أنّ الحقّ موجود مع من يملك القوّة والهيمنة؛ فيقول في ذلك: “المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعارِه وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده؛ والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقدُ الكمال في مَن غلبها وانقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقرَ عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليسَ لغلبٍ طبيعيّ، إنّما هو لكمال الغالب؛ فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء”.
والفكرة اللّيبراليّة الغالبة اليوم تقوم على اعتماد مبدأ “المساواة التّامة المطلقة” بين الرّجل والمرأة، أي المساواة في الصّفات، والمساواة في المهام، والمساواة في الحقوق والواجبات، ونفي أيّة اختلافات بين الرّجل والمرأة.
وهذا يدفع الكثيرين والكثيرات إلى تأويل النّصوص الشرعيّة المتعلّقة بطاعة المرأة زوجها تأويلًا ينسجم مع الرؤية الليبراليّة للمساواة ويخضع لها، بعيدًا عن حقيقة النّصوص الشرعيّة نفسها وبعيدًا عن الرؤية الإسلاميّة للمساواة بين الرّجل والمرأة.
أمّا الرؤية الإسلاميّة للمساواة بين الرّجل والمرأة فيجيب عنها المفكّر الكبير علي عزت بيغوفيتش، مفصلًا القول في هذه الجزئيّة بشكٍل عميق في كتابه “عوائق النّهضة الإسلاميّة”، إذ يقول: “هل يُقرِّر الإسلام مساواة الرّجل بالمرأة؟ الجواب: نعم ولا. نعم، إذا تحدَّث عن المرأة باعتبارها شخصيّة إنسانيّة ذات قيمة شخصيّة مساوية تتحمّل واجباتٍ أخلاقيّة وإنسانيّة. لا، إذا كان الأمر يتعلّق بالتّساوي في الوظائف والدّور في الأسرة والمجتمع، كما يُفهم معنى المساواة في أوروبا عادة.
ويمكن تصوّر قضيّة التّفوق أو الدّونية فقط بين أشياء من جنسٍ واحد، والمرأة ليست أعلى ولا أدنى؛ لأنها -بكلِّ بساطة- مُختلفة عن الرّجل؛ لذلك تسقط المقارنة، ومن ثَمّ يسقط تحديد الأعلى أو الأدنى. فلا معنى للسّؤال: أيّهما أهمّ: القلب أم الرّئة؟ لأنّ كلًا من العضوين لا يمكن أن يقوم بوظيفة الآخر، بل إنّ الاختلاف بينهما يُعطي قيمةً خاصّة لأحدهما بالنّسبة للآخر.
ولننتبه هُنا إلى الحقيقة الآتية: إنّ الواجبات التي يفرضها القرآن متساوية تمامًا في حقِّ الرّجل والمرأة، ولا فرق بين الرّجل والمرأة في أداء الواجب وتحمّل المسؤولية عن أداء أركان الإسلام الخمسة: النُّطق بالشهادتين، الصّلاة، الصّوم، الزّكاة، الحجّ، وكذلك الأمر بالنّسبة للواجبات الأخلاقيّة التي يُطالب بها القرآن الكريم صراحةً أو بطريق غير مُباشر، إذن فالمسؤوليّة متساوية بناءً على أنّ القيمة متساوية؛ لأنّ كلّ قانون يجعل القيمة أساس المسؤولية”.
قناعات أم أفهام؟
إنّ من الإشكالات المنهجيّة في التّعامل مع نصوص الوحي تلك المنهجيّة القائمة على “نقتنع ثمّ نستدلّ”، وهي حاضرةٌ عند كثير من الجهات والشرائح، ومنها أولئك الذين يريدون الدّفاع عن المرأة من خلال لَيِّ أعناق النصوص الشرعيّة وإخضاعها لقناعاتهم التي سقتها الفكرة الليبراليّة عبر عقودٍ خالية.
هذه المنهجيّة قائمة على تمكُّن القناعة من العقل والنّفس، ثمّ حشد الأدلّة لتشريع هذه القناعة وتسويغها، وهكذا تصبح نصوص الوحي خاضعةً للقناعات البشريّة المسبقة، وأيّ نصّ شرعيّ لا ينسجم مع هذه القناعة المسبقة يتمّ تأويله بأيّ وسيلة كانت ليخضع لهذه القناعة.
بينما تقوم المنهجيّة السليمة في التّعامل مع نصوص الوحي كتابًا وسنّةً صحيحة، على اعتبار الوحي مرجعيّة الحكم وليس تابعًا له، أي أن تكون الأحكام والقناعات والأفكار والتّوجّهات خاضعة للنّص الشرعي وليس العكس، وهذا يقتضي أن يكون العقل والفكر عند التّعامل مع النص الشرعيّ غير مُتَبَنٍّ لقناعاتٍ مسبقة يريد تمريرها بثوبٍ شرعيّ، أو أن يملك المرء الجرأة والاستعداد النّفسي والإرادة الحاسمة للتّخلي عن قناعاته وأفكاره إن وجد أنّها تخالف النص الشرعيّ، ويتبنّى ما يدلّ عليه النّص الشّرعي بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ دون الحاجة إلى تكلّف التأويلات والتّسويغات لتمرير القناعات المسبقة.
وهذا هو ما رسّخه النصّ الشرعيّ بأن تكون رغباتنا وميولنا عمومًا -وأخصُّ الفكريّة منها- تابعةً لما جاء به النصّ والوحي ومستنبطةً منه، وقد قال الله تعالى في سورة النّساء: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ”.
ومعنى “شجرَ” في الآية كما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: “تداخلَ واختلف ولم يتبيّن فيه الإنصاف، وأصلُه من الشّجر لأنه يلتفّ بعضه ببعض وتلتف أغصانه. وقالوا: شجرَ أمرهم، أي كان بينهم الشرّ”، وفي هذا دلالة واضحة على أن المرجع عند اختلاف الأمور وحصول المعارك أيًا كانت، ولا سيما الفكريّة منها، إنما هو الاحتكام إلى الوحي متمثلًا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه فينا، وهو كتاب الله تعالى وسنّته.
منهجية الاستنباط
وإنّ إخضاع النصوص الشرعيّة المتعلّقة بالمرأة عمومًا، وقضيّة طاعة المرأة زوجها للقناعات الفكريّة التي تسرّبت إليها الأفكار الليبراليّة عبر مناهج التدريس ووسائل الإعلام التي تعمل منذ عقود في بلادنا العربيّة؛ هو نوعٌ من إخضاع النّصّ الشرعيّ وتأويله المتكلّف بما لا يصلح معه ولا ينسجم مع طبيعته.
فالأصل في التّعامل مع النصّ الشرعيّ هو الاستنباط، كما بيّن النصّ القرآنيّ في سورة النساء، إذ يقول تعالى: “وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا”.
إنّ استخدام لفظ الاستنباط بديعٌ في النصّ القرآنيّ، فهو يدل على استخراج الماء من البئر، فالنصّ هو البئر الذي يحتاج إلى خبيرٍ في حفره، وماهرٍ في إلقاء الدّلاء به واستخراج الماء منه، والماء المستخرج هو نتيجة وجود البئر، فكذلك الأحكام والقناعات هي نتاج الاستخراج من النصّ الشرعيّ وليس العكس، ومن يستخرجها هم العارفون بلغة العرب الخبراء في أدوات الاستنباط، أمّا من لا يستطيع التفريق بين الرّفع والجرّ والخبر والإنشاء فليس له أن يدّعي ممارسة الاستنباط من حيث الأصل.
إنّ تكريس هذه المنهجيّة في التّعامل مع النصوص الشرعيّة عمومًا، والمتعلّقة بنصوص طاعة المرأة زوجها؛ يحلّ كثيرًا من المعضلات ويطفئ كثيرًا من النيران المشتعلة، وهي المنهجيّة التي سنتعامل بها عند الوقوف مع النّصوص المتعلّقة بطاعة المرأة زوجها لاحقًا -بإذن الله تعالى- في مقالات قادمة.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.