الجزيرة نت

ما يعرفه الهدهد.. كيف طوَّر حزب الله مسيراته لمستوى يهدد إسرائيل؟ | سياسة


في صباح 25 أغسطس/آب الحالي، أعلن حزب الله اللبناني أنه شن هجوما جويا بعدد كبير من المسيرات والصواريخ نحو العمق الإسرائيلي، وأعلن الحزب أن عدد الصواريخ التي أُطلقت تجاوزت 320 صاروخا تجاه مواقع داخل إسرائيل، وأن هجماته طالت 11 قاعدة وثكنة عسكرية استُهدفت وأُصيبت في شمال إسرائيل والجولان السوري المحتل، وبعدها بعدة ساعات قال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله إن الحزب استهدف قاعدة غليلوت للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المسماة “شعبة أمان” ومواقع أخرى، ردا على اغتيال إسرائيل القائد بالحزب فؤاد شكر.

تاريخ قصير لمسيرات حزب الله

هذه الضربة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وما زالت التحليلات لحجمها وقدراتها على اختراق الدفاعات الإسرائيلية مستمرة، لكن لفهم مدى عمق تأثير حزب الله يجب أن نرجع بالتاريخ 20 سنة تقريبا للوراء، تحديدا مع أول رحلة لمسيرات حزب الله داخل المجال الجوي الإسرائيلي لأغراض الاستطلاع في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، الأمر الذي فاجأ المخابرات الإسرائيلية وقتها.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

خبراء إيرانيون: عملية حزب الله حلقة من سلسلة رد محور المقاومة

list 2 of 2

كيف نفهم صمود أنفاق غزة أمام طائرات الاحتلال؟

end of list

حلَّقت “مرصاد-1” نهارا أعلى الجليل الغربي لمدة 20 دقيقة تقريبا، ثم عادت إلى لبنان قبل أن تتمكن القوات الجوية الإسرائيلية من اعتراضها. وقتها أعلن حزب الله أن “مرصاد” يمكن أن تصل إلى أي عمق داخل إسرائيل مع 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.

كانت الرحلة الثانية عبارة عن توغل قصير بعمق نحو 25 كيلومترا في أبريل/نيسان 2005 بالمسيرة نفسها، التي أفلتت من الرادار الإسرائيلي وعادت إلى لبنان قبل أن تتمكن الطائرات المقاتلة الإسرائيلية من اعتراضها، تلتها مهمة ثالثة في أغسطس/آب 2006 أثناء حرب لبنان، لكنها هذه المرة لم تستهدف الاستطلاع فقط، بل كانت مسيرات هجومية من طراز “أبابيل” على إسرائيل، كلٌّ منها تحمل 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.

في تلك الفترة، كانت المسيرات القادمة من لبنان صغيرة الحجم، تتحرك ببطء نسبيا، وكانت تمضي على ارتفاع منخفض، وبالتالي كان من الصعب اكتشافها بواسطة الرادار، من شأن الارتفاع المنخفض أن يحد من الكشف، لأنك كلما اقتربت من الأرض ازدادت الفوضى الراديوية بسبب النشاط البشري والظروف البيئية.

كان الظهور التالي لطائرة بدون طيار تابعة لحزب الله في أكتوبر/تشرين الأول 2012 بمنزلة مفاجأة مذهلة، لأن مسيرات حزب الله سافرت جنوبا من لبنان فوق البحر الأبيض المتوسط،​​​ وتحركت لمسافة 50 كيلومترا في النقب (أكثر من 200 كيلومتر مجمل الرحلة)، واخترقت نقطة بالقرب من بلدة ديمونا، موقع مجمع الأسلحة النووية الإسرائيلي، وهناك أسقطتها طائرات إسرائيلية، لكن عند فحص الحطام تبين أن هناك احتمالا أن تكون الطائرة بدون طيار قد نقلت صورا لمركز الأبحاث النووية.

عسكريون إيرانيون يتفقدون مسيرة “كرار” في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2023 (الفرنسية)

تسارع أقلق الإسرائيليين

في ورقة صدرت عام 2014 من اتحاد العلماء الأميركيين، يقول الباحثون إن مسيرات حزب الله ستؤدي مستقبلا مهام الاستطلاع لجمع المعلومات عن تحركات القوات والمرافق، استعدادا لعمليات التسلل أو الهجمات الصاروخية في المستقبل، ومعايرة دقة استهداف الصواريخ في الوقت الحقيقي، وبمجرد تطوير الطائرات لنقل حمولات أثقل، تصبح المسيرات منصات إطلاق للصواريخ الموجهة أو القنابل.

ما توقعته الدراسة حصل بالفعل، ذلك لأن أي قارئ لتاريخ تطور المسيرات في يدي حزب الله سيستنتج فورا أن المشكلة ليست في أن نقارن بين قدرات سلاح المسيرات التابع لحزب الله مع التابع لإسرائيل، ولكن في التسارع الواضح لاعتماد حزب الله على المسيرات، وتطويرها لمستوى أسرع حتى من توقعات الإسرائيليين.

ركَّز حزب الله على تطوير المسيرات في نطاقات بعينها، مثلا استيراد وتطوير كاميرات وأجهزة استشعار أدق مع الزمن، حيث يمتلك حزب الله حاليا كاميرات بصرية دقيقة وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، مما مكَّنها من إجراء مراقبة أكثر دقة وجمع معلومات استخباراتية عالية الدقة، وهذا أمر بالغ الأهمية لمراقبة تحركات العدو وتحديد الأهداف.

في 2006، ربما لم يتخيل أحد أنه في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2024 سيتمكن حزب الله من اختراق الداخل الإسرائيلي، ثم نشر مقاطع مصورة طويلة نسبيا تتضمن مسحا دقيقا لمناطق عسكرية بشمال إسرائيل (الفيديو الأول)، ومشاهد استطلاع جوي لقواعد استخبارات ومقرات قيادية ومعسكرات في الجولان السوري المحتل (المقطع الثاني)، قال الحزب إن مقطع الفيديو صوّرته مسيّرات تابعة له تمكنت “من تجاوز وسائل الدفاع الجوي للعدو، وعادت من دون أن تتمكن وسائله من كشفها”، وتضمنت المشاهد التي وردت في الفيديو الأول والثاني مواقع إسرائيلية حساسة.

مسيّرة الهدهد التي قامت بهاتين العمليتين تحتوي على 8 محركات، وفي كل جناح 3 مراوح، وتبلغ سرعتها القصوى 70 كيلومترا في الساعة، ولها القدرة على الإقلاع والهبوط العمودي دون الحاجة إلى مدرج، وهي عبارة عن طائرة كهربائية لا تتضمن بصمة حرارية أو صوتية، يبلغ طولها نحو 150 سنتيمترا، وطول جناحها 190 سنتيمترا، ما يخفض من قدرة الرادار على رصدها، خاصة أنها ذات صوت ضعيف وقدرات على التخفي. تستطيع الهدهد التحليق لمدة ما بين ساعة وحتى 90 دقيقة، لمسافة 30 كيلومترا.

إلى جانب ذلك، تمكَّن حزب الله من امتلاك مسيرات ذات جودة عالية في أنظمة الاتصالات، مما يسمح بنقل البيانات في الوقت الفعلي إلى مراكز قيادة حزب الله، وبالتبعية فإن ضرب المسيرة بعد اكتشافها لا يمنع نقل البيانات، كما أن هذه القدرة حيوية لاتخاذ القرارات في الوقت المناسب، وخاصة مع الضربات المنسقة، وهو أمر سنتحدث عنه بعد قليل.

كما قام حزب الله بتعديلات عدة لزيادة مداها التشغيلي، مما يسمح لها بالوصول إلى عمق أراضي الاحتلال، وهذا ينطوي على تحسينات في كفاءة الوقود والديناميكا الهوائية الخاصة بالمسيرات، ومن خلال تحسين عمر البطارية وتخزين الوقود، يمكن لمسيرات حزب الله بدون طيار الآن البقاء في الهواء لفترات طويلة، وإجراء مهام مراقبة مطولة أو انتظار اللحظة المناسبة للضرب.

وبالإضافة إلى ذلك، صُممت بعض مسيرات حزب الله الأحدث بحيث يكون لها مقطع عرضي راداري أقل، مما يجعل من الصعب اكتشافها بواسطة أنظمة الرادار الإسرائيلية، وهذا يعزز من قدرتها على البقاء في المجال الجوي الإسرائيلي لفترات طويلة، وهو ما اتضح في حالة الهدهدين.

قدرات هجومية

وإلى جانب قدرات المراقبة، يركز حزب الله على تسليح مسيراته بالمتفجرات، وتحويلها إلى مسيرات انتحارية يمكن توجيهها نحو هدف وتفجيرها عند الاصطدام به، مما يتسبب في أضرار جسيمة، خاصة أن المسيرات الأحدث لديها أنظمة توجيه محسنة، مما يسمح بضربات أدق على أهداف محددة، وهو أمر مفيد خصوصا في الحرب غير المتكافئة، تلك التي يستهدف من خلالها حزب الله إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر على إسرائيل مقابل أقل قدر ممكن من التكاليف.

https://www.youtube.com/watch?v=EIuMgN_4E

حاليا يمتلك حزب الله مجموعة متنوعة من المسيرات، بما في ذلك “مرصاد-1″ (مداها 200 كيلومتر)، و”أيوب” (مشتق من “شاهد-129” الإيرانية بمدى يزيد على 1600 كيلومتر)، كما يمتلك حزب الله مسيرات انتحارية استخدمها في الهجمات المتتالية على إسرائيل، ومن المحتمل أن يطغى إطلاق عدد كبير منها على قدرات القبة الحديدية.

ويبدو أن حزب الله يقترب من تلك النقطة، حيث يقدر “مركز ألما للأبحاث” الإسرائيلي عام 2021 أن حزب الله يمتلك ما يزيد على 2000 من الطائرات المسيرة متعددة المهام. وفقا للتقرير، كان حزب الله يمتلك 200 مسيرة في عام 2013؛ وبمساعدة من إيران زاد حزب الله من أسطوله بشكل كبير، سواء عبر استخدام مسيرات إيرانية مباشرة، أو إطلاق نسخ جديدة مستوحاة منها، أو تطوير التكنولوجيا الخاصة بالمسيرات داخليا.

إسرائيل على الجانب الآخر لم تتجهز بالشكل المناسب لهذا التسارع كما يبدو، فمثلا في مايو/أيار الماضي 2024، شنَّت جماعة حزب الله واحدة من أعمق ضرباتها على إسرائيل، وقدمت ضربة مباشرة لأحد أهم أنظمة مراقبة سلاح الجو الإسرائيلي. وتعليقا على ذلك، قال فابيان هينز، زميل الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن قدرة حزب الله على استخدام المسيرات تُعَد تهديدا يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وفي حين بنت إسرائيل أنظمة دفاع جوي، بما في ذلك القبة الحديدية للحماية من ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف، كان هناك تركيز أقل على تهديد الطائرات بدون طيار.

وقال تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي، وهو مركز أبحاث مستقل تابع لجامعة تل أبيب، إن هذا الهجوم أظهر تحسنا في الدقة والقدرة على التهرب من الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ومنذ بدء القتال في أكتوبر/تشرين الأول 2023، استخدم حزب الله المسيرات بشكل أكبر لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية وضرب مواقعها العسكرية على طول الحدود، وكذلك في عمق إسرائيل.

وأكد معهد أبحاث الأمن الإسرائيلي قبل عدة أسابيع أن حزب الله بدأ استخدام طائرات مسيّرة يمكنها إطلاق صواريخ وأخرى تجمع المعلومات، وسط مخاوف إسرائيلية من تزايد استخدام الحزب للمسيّرات التي يتعذر على النظام الدفاعي الجوي مواجهتها، وفي هذا السياق تتزايد المخاوف في إسرائيل من إطلاق سرب من هذه المسيّرات فجأة، الأمر الذي يسهل اختراق القدرات الدفاعية لإسرائيل.

تكتيكات حزب الله الجوية

لكن حزب الله لا يستخدم المسيرات منفردة في ضرباته الكبرى، بل يدمجها مع الصواريخ. تنوع المنتجات الهجومية الجوية هو هدف أساسي لدى حزب الله، ويُمثِّل سمة مميزة لبرنامجه العسكري، وهو التركيز على العمليات المشتركة، وقد استُخدم هذا التكتيك بالفعل في الضربة الأخيرة، حيث أفاد الحزب بأن هجماته تضمنت ضربات بأنواع مختلفة من الصواريخ والمسيرات، وقد رُصد وجود هذا التكتيك في أكثر من عملية، منها العمليات التي تلت طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

عمليات الأسلحة المشتركة هي أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة، حيث تضرب الأسلحة المشتركة الخصم بعدة أذرع في وقت واحد، فمثلا يمكن استخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة رادارات الدفاع الجوي في المراحل الأولى من هجوم كبير، هنا ستتحول قدرات الدفاع الجوي الأخرى لصد هجوم المسيرات، لكن تليها ضربات صاروخية باليستية وأخرى بصواريخ كروز موجهة (ويمتلك حزب الله بالفعل نسخا منهما)، فلا تتمكن الدفاعات من صدّها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كلٍّ منها.

وعادة ما تعمل المسيرات نفسها في أسراب تكتيكية يمكن أن تشتت قدرات أنظمة الدفاع الجوي وتتجاوز حدود قدرتها على الصدّ، وتعطل الاتصالات والخدمات اللوجستية. وعلى سبيل المثال، ففي سيناريو الحرب، سيعمل فريق من المسيرات على تدمير أنظمة الدفاع الجوي وتمهيد الطريق لسلسلة من المسيرات الأخرى للتوغل في أراضي العدو، في حين تقوم فرقة ثالثة من المسيرات بالاستطلاع ودراسة الضربة.

طائرة مسيّرة استخدمها حزب الله في تبادل إطلاق النار الحدودي مع إسرائيل (غيتي)

وفي دراسة صدرت في 2022، يوضح جيمس روجرز، أستاذ الدراسات الحربية بجامعة جنوب الدنمارك، أن هذه الهجمات المشتركة تهدف إلى التغلب على دفاعات الخصم بطريقة متطورة من الناحية التكتيكية والتقنية، ويشير روجرز إلى أنه في حال التمكن من إيقاف تلك الهجمات الآن، فإنه في مرحلة ما، ومع وقوع مسيرات أكثر تقدما في أيدي جهات مثل الحوثيين، وقدراتهم على إعادة إنتاجها أو ابتكار الجديد منها، سيكون من الصعب جدا (إن لم يكن من المستحيل) مواجهة تلك الهجمات.

هذا بالضبط هو أحد أهم الأسباب التي دفعت حزب الله منذ البداية للتركيز على حرب المسيرات، فالفرصة لتطويرها مفتوحة تماما مع زيادة توافر تكنولوجيا المسيرات التجارية، ومنظومات تحديد الموقع الجغرافي، وتطبيقات التحكم في نشر المسيرات، وأجهزة إرسال واستقبال التردد القابلة للتعديل. يفتح ذلك الباب لاستيراد وتطوير تكنولوجيا، رخيصة نسبيا وسهلة في الحصول عليها، باتت يوما بعد يوم تُمثِّل تحديا للتفوق الجوي للطائرات المقاتلة (في حرب غير متكافئة ضد جيش متقدم في العدد والعتاد).

بالنسبة لجماعات مثل حزب الله، فإن هدف الاستثمار في المسيرات مختلف عن قدرات الجيوش التقليدية، فالأخيرة تستثمر في المسيرات بوصفها جزءا من سلاحها الجوي الذي تُمثِّل المقاتلات قمة هرمه، أما بالنسبة للحوثيين فإن المسيرات هي قمة سلاحها الجوي، ومن ثم فإنها تعمل على تطويره بكل السبل الممكنة، واستخدامه بأكثر الأساليب فاعلية.

ويوضح روجرز في دراسته أن ذلك ليس إلا خطوة أولى، فيوما بعد يوم ستزيد من مرونة أنظمة المسيرات وقابليتها للأتمتة، أي أن تصبح مستقلة وقادرة على التعامل بشكل منفصل عن وحدة التحكم البشرية بصورة كاملة أو شبه كاملة، ويعتقد روجرز أنه بحلول عام 2040 فإن الجماعات، مثل حزب الله أو الحوثيين أو غيرها، ستتمكن من أتمتة مسيراتها، بالنظر إلى التطور المحتمل للذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي، الأمر الذي يفتح الباب بدوره إلى مرحلة “تهديدات المسيرات كاملة الطيف”، ما يعني أن المسيرات التي تمتلكها جماعات كتلك لن تكون جوية فقط، بل أرضية وبحرية.

يعي المخططون ذلك في عدة جبهات مثل حزب الله، وكلٌّ منهم يستخدم ما هو متاح من تكنولوجيا وأدوات، سواء بالابتكار المحلي أو الاستيراد من الأصدقاء، ليحقق أقصى استفادة ممكنة من سلاح المسيرات، وهو يعلم أن طريقها للتطوير مفتوح تماما. ولذا فإن النجاح الجزئي الذي حققته الضربة الأخيرة ليس إلا خطوة أولى في خط سير طويل.



اقرأ على الموقع الرسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى