سعد زغلول سيرة فريدة لزعيم استثنائى
درس بالأزهر وشارك فى الثورة العرابية وكان نموذجاً فى الكرامة والاستقامة
طالب باستقلال مصر واعتُقل وتم نفيه ليشعل أعظم ثورات المصريين
كان نموذجاً فى الزعامة والوطنية والخطابة وحسن الإدارة
لا نعلم من سجلات المواليد تاريخ ميلاد سعد. فلا غنى لنا فى إثباته عن الترجيح دون التحقيق. والأرجح أنه ولد فى ذى الحجة سنة ١٣٧٤ هجرية (أى فى يوليو سنة ١٨٥٧ ميلادية) لأنه التاريخ الذى ذكره سعد لبعض سائليه عن ميلاده. أما التاريخ المكتوب على شهادة «الليسانس» التى حصل عليها من باريس فيقال إنه هو أول يونية سنة ١٨٦٠ ولد سعد فى تلك السنة أو بعدها بقليل، وهى بيئة زمانية صالحة لميلاد الزعيم الذى قدر له أن يحارب الظلم كصلاح البيئة البيتية التى نشأ منها، والبيئة المكانية التى نبت فيها.
فقبل الثورة العرابية بعشرين سنة كان تذمر الرعية المهضومة يختمر فى أرجاء القطر كله، وكان الشعور بحق الشعب وحق الفرد يتنبه ويتعاظم سنة بعد سنة، وكان حق الحاكم المستبد قد أخذ فى التزعزع والتراجع، لأن العصر كله فى الأقطار كلها امتلأ بالثورات ومطالب الإصلاح وحركات العصيان، أما على الحاكمين الأجانب أو الحاكمين من ملوك البلاد، فالطفل الذى يولد فى هذه البيئة الزمانية، مزوداً بميراث الأنفة والجرأة والعطف على الضعفاء، خليق أن يبلغ مدى استعداده، ويترقى إلى أوج اقتداره.
وقد ورث سعد من أبويه بنية الفلاح وصلابة الخلق وصدق العزيمة، وعوجل بموت أبيه وهو فى نحو السادسة من عمره فحرم عطف الأبوة وحمايتها، ولكنه حرمان لم يصادف ضعفا فى مزاج نفسه فينهكها ويمحقها. تربى سعد بعد موت أبيه فى كفالة أخيه الأكبر وزوج خالته الشناوى أفندى، وهو رجل حازم كريم القلب جم المرونة، شملت مروته الأتباع والخدم فضلاً عن الأخوة والأقارب. ولما رآه بعيدا عن الفلاحة والزراعة، فعول على توجيهه إلى العلم وترشيحه للرئاسة الدينية، وأدخله المكتب (الكتاب) ليتعلم القراءة، ويحفظ القرآن تمهيداً لإشخاصه مع بعض أفراد الأسرة إلى الجامع الأزهر لإتمام العلوم الدينية فيه.
ولعل من حسن الشهادة الطفولة سعد أنه برم بالمكتب فى بداية عهده كما ينتظر من كل طفل مستقيم الطبع قوى الشكيمة يمتحن بتلك الأساليب العوجاء التى كان يجرى عليها التعليم قبل ثمانين سنة. فاشتد عليه أخوه مرة بعد مرة حتى اطمأن إلى المكتب، وشاءت الأقدار أن توفر للصبى اليتيم كل ما يعين فيه عزيمة الجد وينجو به من وخامة التدليل التى يبتلى بها الأيتام الصغار فى حضانة الأمهات الشواب، فكانت أمه تشتد عليه كاشتداد أخيه كلما أنست منه تقصيراً أو شعرت بحاجته إلى تقويم، وكانت تشكوه إلى الفقيه ليضربه ويؤدبه كلما استوجب العقوبة.
دخل سعد الكُتاب فى نحو السادسة وانتهى منه فى نحو الحادية عشرة. ووضحت عليه فى تلك السن الصغيرة خصلتاه اللتان امتاز بهما فى جميع أدوار حياته، وهما الفهم والعزم فكان يصحح كتابة اللوح من قراءة واحدة، ويفرض على نفسه من الواجبات فوق ما يفرضه المعلم، فيعيد فى كل يوم ثلاثة أرباع المصحف وهو لا يطالب بأكثر من إعادة ربعين، حتى حفظ القرآن حفظاً جيداً ولم يبق له ما يتعلمه فى مكتب البلدة، فتردد سنتين أو ثلاثاً بين رشيد ومطوبس يحضر على الشيخ أحمد أبى رأس ليدرس النحو والفقه ويتلقى أحيانا أصول التجويد بالجامع الدسوقى والقراءة على الشيخ عبدالله عبدالعظيم المقرئ المشهور فيه، ثم صحت النية على إرساله من هذه الجوامع الصغيرة إلى الجامع الأزهر الكبير.
هبت الثورة العرابية كما تهب العاصفة بعد طول السكينة، فاشتركت فيه من الأمة كل قوة فكرية أو عسكرية، وشايعها الجامدون والمصلحون على السواء، لأن المظالم والمفاسد لم تدع للمصريين سلوة يتعزون بها أو مهربة يتوبون إليه، فكان رجال الدين والأزهريون جملة على رأسها وفى طليعة دعاتها، خلافا لرجال الدين فى كل ثورة داخلية، فإن الطبيعة المصرية على ما نظن لم تكن لترسخ ثورة ليس فيها للمحافظة مكان.
ولم تفلح الثورة العرابية لأنها أحيطت بدواعى الحبوط من الدسائس الخارجية، ومن تهالك الحكام على الدول الأجنبية، ومن خطل الزعامة وعبث الدولة العثمانية، وكانت نهايتها بداية احتلال أجنبى للبلاد.
اشترك «سعد» فى الثورة كما اشترك فيها أساتذته وبعض زملائه، وناله من أذى الاعتقال بلاء غير يسير، وخسر وظيفته وبات فى مرصد الشبهة من أنظار الحكام، أعداء العرابيين، واتجه سعد إلى المحاماة بعد خروجه من السجن.
محام عظيم
عاد إلى الصناعة المكروهة التى لا محيص عنها، فكان المثل البارز لتلك الكرامة الشخصية أو تلك الكفاءة القوية، التى لا تحتاج إلى سند من غيرها لتعلو وتنبه وتستكمل قسطها من المبالاة والعرفان.
وبالكرامة الشخصية وحدها أصبح المحامى سعد زغلول أهلا لولاية القضاء، فى زمن كان فيه المحامى كالخادم عند القضاة، وكانت كلمة واحدة من القاضى تكفى لحرمانه حق الاشتغال بهذه الصناعة. ولم تهبط صناعة المحاماة بسعد زغلول كما كان يخشى، بل كان سعد زغلول هو الذى ارتفع بصناعة المحاماة، فلم يقبل قط الدفاع عن باطل، ولم يرفض قط الدفاع عن حق، ولم يحضر قط فى جلسة إلا وقد درس جميع القضايا التى حضر للمدافعة فيها، دراسة لا يستدرك عليها القضاة ولا وكلاء النيابة ولا الخصوم نقصاً أو إهمالا فى موضع من المواضع. وكان من عادته إذا عرضت فرصة للصلح أن ينتهزها ويشجع موكله عليها برد مقدم الأتعاب إليه. فكان يقيد «مقدم الأتعاب» فى باب الأمانات لا فى باب الموارد ليقى نفسه ضعف نفسه كما كان يقول حتى إذا أراد الموكل الصلح رد إليه ماله وقال له: هذه أمانتك ردت إليك.
واشتهرت أمانته وإخلاصه فى عمله بعد فترة وجيزة، فملأت شهرته القُطر من أقصاه إلى أقصاه، وأصبح توكيله فى قضية مدنية أو جنائية ضماناً لكسبها وخذلان خصومه فيها، ووثق به القضاة فأصبح قبوله القضية بمثابة حكم قاطع فيها، وحرص كل صاحب دعوى على أن يكون «سعد» معه ولا يكون عليه. ومن المتقاضين من كان يوكله ويبذل له الأجر الوافر لإرهاب خصومه.
بعد ثمانى سنوات أو تسع من اشتغال «سعد» بالمحاماة عُرضت عليه وظيفة نائب قاض، بمحكمة الاستئناف فى سنة ١٨٩٢ فقبلها على ضآلة مرتبها بالقياس إلى ما كان يربحه من المحاماة. إذ كان هذا المرتب خمسة وأربعين جنيهاً ولم يكن ربحه من مكتبه يقل عن خمسمائة جنيه فى الشهر، أى أكثر من عشرة أضعاف مرتب القضاء.
وقد تبع فى ولاية القضاء خطوات أستاذه الشيخ محمد عبده كما تبعه فى الدراسة الأزهرية وفى مصاحبة جمال الدين وفى تحرير «الوقائع المصرية»، وكان الشيخ محمد عبده هو صاحب الاقتراح فى تعيينه، لا مصطفى فهمى باشا رئيس الوزراء كما تبادر إلى أوهام بعض الناس بعد ذلك، فالحقيقة أن سعداً لم يصاهر مصطفى باشا إلا بعد تعيينه فى القضاء بأربع سنوات، ولم يستفد درهما واحدا علاوة على مرتبه بفضل تلك المصاهرة، إذ كانت الترقية فى مناصب القضاء العليا لا تجرى لذلك العهد إلا بترتيب مقدور ونظام محسوب لا استثناء فيه. وكان سعد أول محام أسندت إليه وظيفة القضاء، فكان هذا التعيين خليقا أن يقع من الناس موقع الأمر المستغرب المفاجئ، ولكنه على نقيض ذلك.
الطريق إلى الزعامة
وإذا كانت زعامته الوطنية تتمة منسوقة مع ماضيه من قبل الثورة العرابية فأعماله بعد الزعامة تتمة منسوقة مع ذلك الماضى المنطقى المتفق الأوائل والأواخر. تعرفه من قبل كما تعرف من أساس البناء المرسوم كيف تكمل فيه الذروة وتعلو فيه الجدران.
لبث سعد فى أيام الحرب العظمى يترقب ساعة العمل غير غافل ولا متعجل، وكان من المفهوم عند الإنجليز قبل غيرهم أنه لم يعترف بالحماية ولم يسكت إلا فى انتظار الفرصة التى يفيد فيها الكلام. ولو فهم الإنجليز شيئاً غير ذلك لما سوفوا بعقد الجمعية التشريعية موعدا بعد موعد حتى اتفقوا على تأجيلها إلى موعد غير معلوم، بل لأسرعوا بعقدها ليسمعوا منها الاعتراف الذى يعدون الظفر به من نواب مصر المنتخبين غاية ما يطمعون فيه من إقرار.
ولم يخف عليهم أن سعداً كان يستطيع أن يتكلم كما تكلم رئيس الجمعية التشريعية فى المقابلات الرسمية، فإذا آثر السكوت فإنما يؤثره لأن له رأيا لا يقال، ولا فائدة من أن يقال فى تلك الأحوال. وظلت مقادير الحرب تتراوح بين المتحاربين زهاء ثلاث سنوات، تعلو كفة النصر يوما وتهبط يوما فى كل ميدان، ولا يلوح من طوالع الحوادث فى خلال ذلك ما يؤذن بانتهاء القتال وابتداء الهدنة والفصل فى مصير.
وعند أواخر سنة ١٩١٧ أذاع الرئيس ويلسون شروطه الأربعة عشر فى أوائل السنة التالية ومنها إنصاف الضعفاء، وإيلائهم حق تقرير المصير. ثم التزمت تركيا فى الميادين المتاخمة لمصر وعولت على التسليم وتم التسليم فى أواخر أكتوبر سنة ١٩١٨. فأيقن العارفون فى تلك الأيام باقتراب النهاية، وانكشف العمل الذى تفرضه الحوادث على زعماء مصر أو أخذ ينكشف ويتجلى من أواسط العام بعد أن كانوا لا يعرفون إلا أن هناك واجباً وطنياً ينبغى أن ينهضوا به وإن هناك فرصة آتية لا بد أن يغتنموها.
وفى نوفمبر ذهب سعد وأصحابه إلى السير ونجت المعتمد البريطانى ومعه صاحباه على شعراوى وعبدالعزيز فهمى ودار الحوار الشهير، وانتهى بما هو معروف بأن الزعماء لا يمثلون الأمة، وولدت فكرة التوكيلات وعممت فى البلاد واتسعت وأحدثت حراكا عظيما، ثم تطور الأمر لاعتقال سعد من بيته يوم 8 مارس 1919.
الثورة تشتعل
سرى نبأ الاعتقال بطيئاً متناقضاً فى اليوم الأول، لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره والتلميح إليه، فعلم به أعضاء الوفد وأصدقاؤه وموظفوه فى يوم، وعلم به طلبة المدارس العليا فى اليوم التالى لأنهم يجتمعون فى أمكنة متقاربة وينتمى بعضهم إلى أعضاء الوفد وأصدقائه بصلة القرابة أو المعرفة، وتسامعت به أحياء القاهرة شيئاً فشيئاً، وانتقل منها إلى الأقاليم بمثل ذلك البطء والتناقض، فلم يسر إلى القطر كله إلا بعد يومين أو ثلاثة.
أضرب طلاب المدارس العليا فى صباح اليوم العاشر من شهر مارس عن تلقى الدروس، وخرجوا من مدارسهم فى مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق فى إبداء مشيئتها، وهى تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها. وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية فى اليوم الحادى عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف من الجمهور، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير، ولا بين مشترك أو غير مشترك فى المظاهرة.
وكانت نقابة المحامين قد أعلنت الإضراب فانقطع المحامون عن المحاكم، قمع المظاهرات أغضب الناس فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل إلا من كان يوفدهم المجلس إليها لطلب تأجيل القضايا، واستثارت القسوة وأضرمت النيران بدلا من أن تخمد.
وتعددت المظاهرات فى مدن القطر فقوبلت بمثل ما قوبلت به فى القاهرة، فانفجر كمين السخط حرا بعد كظمه فى الصدور، وانفجرت الثورة فى كل مكان من الخطأ أن يقال إن المظاهرات كانت هى سبب الثورة الوحيد، أو أن ثورة ما كانت لتنفجر فى القطر لولا مظاهرات العاصمة، فإنما كانت المظاهرات الشرر الأول يتطاير من فوهة بركان يغلى وهو يهم بالانفجار، فمن شهد تلك الليلة الحارة التى اندفعت فى حينها اندفاعا يدل على عمق مكامنها وأنها قوة لا تحبس طويلا.
أما حوادث الأقاليم فقد تمت بغير إيحاء ولا تدبير، إذ لم يكن للوفد فى ذلك الحين لجان يجوز أن يقال إنها اتفقت على تنفيذ خطة مرسومة فى جميع الأقاليم، ولم يكن خبر السكة التى قطعت بين طنطا وتلا قد شاع فى القطر حتى يقال إنه جاء فى طليعة الحوادث بمثابة الإيحاء.
ولقد أخطأت السلطة العسكرية فى كل تدبير فكانت تستفز الناس بكل عمل تقصد به إلى البطش والإرهاب، وتدفعهم إلى نقيض ما تريد من الخوف والطاعة، وتثير النفوس إلى التحدى والمعاندة بدلا من الإذعان والسكينة. بالغت فى قمع المظاهرات فزادت المظاهرات، وأنذرت كل من يقطع المواصلات بالإعدام رمياً بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية، فكان جواب هذا الإنذار إضراب عمال السكة الحديدية فى اليوم التالى وخروجهم من مصانعهم متظاهرين، ثم اندفع الناس فى قطع القضبان وأسلاك التلغراف والتليفون غير مكترثين للعاقبة، فانعزلت القاهرة والمدن الكبرى من جميع الجوانب، واضطرت السلطة إلى استخدام الجنود الإنجليز فى تسيير القطار وتنظيم المواصلات.
لكن الأمة انتصرت، وعاد سعد، ووضع دستور 1923، وأجريت الانتخابات وشكلت الحكومة العدلية، وجرت حوادث عظيمة أبانت عن زعيم خالد لا يضاهيه زعيم. فكانت توفيقات زمانه السياسية والاجتماعية قد جعلته الزعيم المصرى الذى ليس بين معاصريه أحد أجدر منه وأولى بالزعامة، وذلك وحده كفيل بتقرير مكانة قررها لنفسه وقررتها الأحداث والتوفيقات فيها فى أصلح الصفات العامة المصريين. فهو فى طبيعته العملية، وفصاحته المقنعة، وفكاهته المرتجلة، وسماته المهنية، ومنزلته الرفيعة، خير من ترشحه مصر لزعامتها.
نقلاً عن كتاب «سيرة سعد زغلول» لعباس العقاد بتصرف.
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.