الجزيرة نت

كخطّ الوحيِ في الرّقّ القشيبِ… كيف كان الشعر العربي مصدرا لتأريخ أحداث السيرة النبوية وتوثيقها؟ | ثقافة


تُعرف الدواوين الشعرية وكتب الأدب واللغة عامة بكونها مصدرا مهما من مصادر التأريخ، لا سيما أن بعض الأحداث التاريخية لم تكتمل إلا بما جاء في أشعار العرب عنها، وامتدّ الأمر كذلك إلى التأريخ في صدر الإسلام، فنظرة سريعة على كتاب (المغازي) لابن إسحاق وكتاب (السيرة النبوية) لابن هشام كفيلة بتبيان أهمية الشعر العربي والأبيات المتفرقة في أمهات الكتب في مجال تأريخ الأحداث والوقائع وتصويرها واستكمال ما غاب منها في المصادر التاريخية المختلفة. وبالنظر إلى الأحاديث النبوية أيضا نجد اهتماما خاصا من الإمام البخاري في صحيحه بالشعر والاستشهاد به، إذ نجد لديه بابا تحت عنوان (ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه).

كما نجد في طيات دواوين أشهر الشعراء في صدر الإسلام أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك كثيرا من الدقائق والتفاصيل التي غاب ذكرها عن سواها من الكتب والمراجع، وللدواوين الشعرية على غيرها من كتب الأدب والأخبار درجة، فالكتب النثرية تحوي الشاذ والغريب والطريف من الأخبار، وقد لا يُعنى الكاتب بتتبع نسبة الأشعار ومصداقية الروايات التي يثبتها، في حين يبدو ذلك في الدواوين الشعرية أقل بكثير.

يُعد الشعر العربي وثيقة تاريخية مهمة لأنه أشبه بمرآة للحياة تعكس الواقع انعكاسا لا يصورها تصويرا حرفيا دقيقا، لكنه يعكس صورتها وفقا للشاعر، فنفسه ورؤيته وأهواؤه وأفكاره كلها حاضرة في ثنايا كلماته، لكن الشعر يبقى على الرغم من ذلك انعكاسا عاما لوقائع الحياة الاجتماعية، فكثيرا ما صور المعارك وساحات الوغى وبسالة الأبطال والمحاربين والمجاهدين في سبيل إعلاء كلمة أو فكرة أو موقف، ولطالما أشاد بأسماء معينة وحدد الأماكن والأزمان بعينها، ففي أشعار صدر الإسلام نجد إشادة بأمجاد العرب من جهة وأمجاد المسلمين وبطولاتهم من جهة ثانية، فالشعر -كما يقال دوما- ديوان العرب وسجلهم الذي حفظ تراثهم وتاريخهم وخلد أمجادهم وبطولاتهم، وتغنى بأخلاقهم وما كانوا يفخرون به في ذلك الزمان، وهو ينبوع عذب من الينابيع التي حفظت جمال اللغة العربية وبيّنت فرادتها وأثبتت أصالتها.

تنبّه محمد بن إسحاق (151هـ) لأهمية الشعر في أثناء روايته لأحداث السيرة النبوية، فدعّم حديثه بالاستشهاد بالأشعار التي تتعلق بما يرويه من أحداث، وكان منهجه في ذلك أنه ينقل عقب كل حدث مهم يرويه ما قيل فيه من أشعار، كحديثه عن الغزوات الشهيرة في تاريخ الإسلام، غزوة بدر 2هـ وغزوة أُحد 3هـ وغزوة الخندق 5هـ، وغير ذلك كفتح مكة عام 8هـ. ومثله في ذلك ابن هشام (218هـ) الذي رتّب ما جاء به ابن إسحاق وهذبه، فحذف من الأشعار ما لم يتأكد من صحته وسنده ونسبته وما شك بمصداقيته. وبالنظر إلى تاريخ الطبري (310هـ) نلحظ أنه اعتمد على الشعر أيضا في كثير من الأخبار قبل الإسلام وبعده، لا سيما تلك التي تتعلق بذكر الملاحم والانتصارات، ونلحظ أيضا أنه اهتم بأشعار الهجاء والمراثي اهتماما كبيرا، لأنها –غالبا- تخلّد مآثر الأشخاص الذين تركوا أثرا حقيقيا في صفحة التاريخ.

وتتجلّى جمالية الاستشهاد بالأشعار في تأريخ أحداث السيرة النبوية في كتاب السّهيلي 581هـ (الروض الأنف)، الذي شرح فيه كتاب السيرة النبوية لابن هشام، فشرح الأبيات الشعرية وعلق عليها وفسر غريب الكلمات فيها، وعلق على بعض الأحداث، فجاء كتابه أشبه بموسوعة تاريخية تروي أحداث السيرة النبوية وتقدمها بقالب لغوي مميز وثريٍّ بفوائده اللغوية والأدبية والبلاغية.

وهناك من الشعراء من انبرى لتأريخ أحداث السيرة النبوية كاملة فنظمها بقالب شعري فريد، كعبد العزيز بن أحمد المعروف بسعد الديري 607هـ، وأبي الحسن فتح بن موسى القصري 668هـ، وابن الشهيد 793هـ وغيرهم، ولعلّنا نستعرض فيما يأتي بعضا من النماذج التي أرّخت لتفاصيل مهمة من السيرة النبويّة شعرًا، للدلالة على دور الشعر في عملية التوثيق والتأريخ.

حسان بن ثابت يؤرخ غزوة بدر شعرًا:

جاء في سيرة ابن هشام نقلا عن سيرة ابن إسحاق أبيات شعرية لشاعر رسول الله حسان بن ثابت وهو يتحدث عن قتلى المشركين الذين أمر رسول الله أن يطرحوا في القليب بعد غزوة بدر، إذ بدأ حسان قصيدته بقوله:

عَرَفتَ دِيارَ زَينَبَ بِالكَثيبِ
كَخَطِّ الوَحيِ في الرَقِّ القَشيبِ

ثم ينتقل لوصف ما جرى بين المسلمين والمشركين في غزوة بدر مفتخرا بانتصار المسلمين قائلا:

وَخَبِّر بِالَّذي لا عَيبَ فيهِ

بِصِدقٍ غَيرِ إِخبارِ الكَذوبِ

 

بِما صَنَعَ المَليكُ غَداةَ بَدرٍ

لَنا في المُشرِكينَ مِنَ النَصيبِ

 

غَداةَ كَأَنَّ جَمعَهُمُ حِراءٌ

بَدَت أَركانُهُ جُنحَ الغُروبِ

 

فَلاقَيناهُمُ مِنّا بِجَمعٍ

كَأُسدِ الغابِ مِن مُردٍ وَشيبِ

 

أَمامَ مُحَمَّدٍ قَد آزَروهُ

عَلى الأَعداءِ في رَهجِ الحُروبِ

 

بِأَيديهِم صَوارِمُ مُرهَفاتٌ

وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خاظي الكُعوبِ

 

بَنو الأَوسِ الغَطارِفِ آزَرَتها

بَنو النَجّارِ في الدينِ الصَليبِ

 

وجاء في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف أمام قتلى المشركين في القليب وخاطبهم بقوله: “يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا”، فذكر حسان هذا الموقف في قصيدته قائلا:

فَغادَرنا أَبا جَهلٍ صَريعا

وَعُتبَةَ قَد تَرَكنا بِالجَبوبِ

 

وَشَيبَةَ قَد تَرَكنا في رِجالٍ

ذَوي حَسَبٍ إِذا اِنتَسَبوا حَسيبِ

 

يُناديهِم رَسولُ اللَهِ لَمّا

قَذَفناهُم كَباكِبَ في القَليبِ

 

أَلَم تَجِدوا حَديثِي كانَ حَقّا

وَأَمرُ اللَهِ يَأخُذُ بِالقُلوبِ

 

فَما نَطَقوا وَلَو نَطَقوا لَقالوا

صَدَقتَ وَكُنتَ ذا رَأيٍ مُصيبِ

 

عبد الله بن رواحة يؤرّخ لحادثة توديع الصحابة لهم يوم مؤتة

جاء في سيرة ابن هشام أن الناس تجهزوا للخروج يوم مؤتة وهم آنذاك 3 آلاف، فحين “حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين”. فأجابهم عبد الله بن رواحة متمنيا الشهادة في سبيل الله:

لَكِنَّني أَسأَلُ الرَحمَنَ مَغفِرَةً

وَضَربَةً ذاتَ فَرغٍ تَقذِفُ الزَبَدا

 

أَو طَعنَةً بِيَدَي حَرّانَ مُجهِزَةً

بِحَربَةٍ تُنفِذُ الأَحشاءَ وَالكَبِدا

 

حَتّى يُقالَ إِذا مَرّوا عَلى جَدَثي

أَرشَدَهُ اللَهُ مِن غازٍ وَقَد رَشَدا

 

تأريخ حسان بن ثابت لتفاصيل خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة المكرمة

في العام السابع للهجرة عقد اتفاق بين رسول الله وقريش على أن يعود بالمسلمين إلى المدينة المنورة هذا العام، ويسمح لهم بدخول مكة العام القادم للحج، لكن قريشا نقضت عهدها فدخل المسلمون مكة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عام فاتحين، وكان حسان بن ثابت سيفا إعلاميا وناطقا رسميا بلسان المسلمين، فأمره رسول الله أن يهجو المشركين من سادات قريش فوقع الهجاء عليهم أشد من وقع السيوف والنّبال آنذاك، فقال حسان قصيدته الشهيرة:

عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها

تُثيرُ النَقعَ مَوعِدُها كَداءُ

 

يُبارينَ الأَسِنَّةِ مُصغِياتٍ

عَلى أَكتافِها الأَسَلُ الظِماءُ

 

تَظَلُّ جِيادُنا مُتَمَطِّراتٍ

تُلَطِّمُهُنَّ بِالخُمُرِ النِساءُ

وقد بيّن حسان موقف المسلمين وإصرارهم على دخول مكة وأداء العمرة، وأنهم جاهزون هذا العام للقتال إن لم يسمح لهم بالدخول، إذ قال:

فَإِمّا تُعرِضوا عَنّا اِعتَمَرنا

وَكانَ الفَتحُ وَاِنكَشَفَ الغِطاءُ

 

وَإِلّا فَاِصبِروا لِجَلادِ يَومٍ

يُعينُ اللَهُ فيهِ مَن يَشاءُ

 

وَقالَ اللَهُ قَد يَسَّرتُ جُندا

هُمُ الأَنصارُ عُرضَتُها اللِقاءُ

 

لَنا في كُلِّ يَومٍ مِن مَعَدٍّ

قِتالٌ أَو سِبابٌ أَو هِجاءُ

 

فَنُحكِمُ بِالقَوافي مَن هَجانا

وَنَضرِبُ حينَ تَختَلِطُ الدِماءُ

ثم يتابع حسان في القصيدة نفسها ويهجو أبا سفيان ردا على هجائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤرّخ لبعض التفاصيل التي تتعلق بالأحلاف ومصيرها:

أَلا أَبلِغ أَبا سُفيانَ عَنّي

فَأَنتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَواءُ

 

هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأَجَبتُ عَنهُ

وَعِندَ اللَهِ في ذاكَ الجَزاءُ

 

أَتَهجوهُ وَلَستَ لَهُ بِكُفءٍ

فَشَرُّكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ

 

هَجَوتَ مُبارَكا بَرّا حَنيفا

أَمينَ اللَهِ شيمَتُهُ الوَفاءُ

 

فَمَن يَهجو رَسولَ اللَهِ مِنكُم

وَيَمدَحُهُ وَيَنصُرُهُ سَواءُ

 

فَإِنَّ أَبي وَوالِدَهُ وَعِرضي

لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ

 

فَإِمّا تَثقَفَنَّ بَنو لُؤَيٍّ

جَذيمَةَ إِنَّ قَتلَهُمُ شِفاءُ

 

أولَئِكَ مَعشَرٌ نَصَروا عَلَينا

فَفي أَظفارِنا مِنهُم دِماءُ

 

وَحِلفُ الحَرِثِ اِبنِ أَبي ضِرارٍ

وَحِلفُ قُرَيظَةٍ مِنّا بُراءُ

ويفتخر حسان بشعره وقوة لسانه الذي سخره في سبيل الدفاع عن الإسلام والذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول:

لِساني صارِمٌ لا عَيبَ فيهِ

وَبَحري لا تُكَدِّرُهُ الدِلاءُ

خبيب بن عدي رضي الله عنه يوثق حادثة إعدامه شعرًا

خبيب بن عدي صحابي من الأوس، كان في البعثة التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد ليقرؤوا القرآن على الناس ويفقهوهم في الدين ويعلموهم شرائع الإسلام، فحين وصلوا إلى الرجيع، وهو ماء لهذيل بين عسفان ومكة، أُحيط بهم غدرا، فصار الصحابة بين قتيل وأسير. وأُسر خبيب بن عدي آنذاك وجيء به إلى مكة ليباع، فاشتراه رجل ليأخذ بثأر أبيه الذي قتله خبيب في غزوة بدر، وحين خرجوا به إلى التنعيم (خارج حدود الحرم)، طلب منهم أن يسمحوا له بصلاة ركعتين قبل تنفيذ حكم القتل فيه فسمحوا له بذلك، واجتمع كثير من الناس ليحضروا مصرعه، وحين رفع إلى خشبته موثقا مكبلا أنشد قائلا:

لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ

 

وكلّهم مُبدي العداوة جاهدٌ

عليّ لأني في وَثاقي بمضيع

 

وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم

وقُربت من جذع طويل مُمنّع

 

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي

وما أرصدَ الأحزابُ لي عند مَصرعي

 

فذا العرشِ صبّرني على ما يُراد

بي فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي

 

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصالِ شلو ممزّع

 

وقد خيروني الكفرَ، والموت دونه

وقد هملت عيناي من غير مجزع

 

وما بي حِذارُ الموت، إني لميّتٌ

ولكن حذاري جحم نار مُلفع

 

فلست أبالي حين أقتل مسلما

على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي

 

ولست بمبدٍ للعدو تخشّعا

ولا جزِعا، إنّي إلى الله مَرجعي

فضالة بن عمير الليثي يوثق تفاصيل فتح مكة وما تبعها من محاولة اغتياله للنبيّ صلى الله عليه وسلم شعرًا

وردت في سيرة ابن هشام حادثة محاولة اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي “قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضالة؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله، قال : ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال : لا شيء كنت أذكر الله، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا”. وراح فضالة ينشد قائلا :

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا

يأبى عليك الله والإسلامُ

 

لوما رأيت محمدًا وقبيله

بالفتح يوم تكسر الأصنامُ

 

لرأيت دين الله أضحى بينا

والشرك يغشى وجهه الإظلامُ

الصحابة رضي الله عنهم يوثقون حادثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى فتوفي في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة بلا خلاف، وهو في الثالثة والستين من عمره، وكان وقع الخبر على الصحابة الكرام عظيما، فاختلفت ردودهم، وتباينت مشاعرهم، واختلطت أفكارهم، ودهمهم الجزع آنذاك حتى أنزل الله سكينته عليهم، وكان منهم أن أنشدوا في توثيق وفاته أشعارا تفيض بما اعتمل في صدورهم من حزن وأسى، فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول مؤرخا لوفاته صلى الله عليه وسلم:

فُجعنا بالنبي وكان فينا

إمام كرامة نِعْمَ الإمام

 

وكان قوامنا والرأسَ منا

فنحن اليوم ليس لنا قوامُ

 

نموج ونشتكي ما قد لقينا

ويشكو فقده البلدُ الحرام

 

فلا تبعد فكل كريم قوم

سيدركه ولو كره الحمام

 

فقدنا الوحي إذ وليتَ عنا

وودعنا من الله الكلام

 

لقد أورثتنا ميراثَ صدق

عليك به التحية والسلام

 

أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرثى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استكانت نفسه وهدأت وأيقنت بصدق الخبر وحق الأجل، قائلا:

ما زلتُ مذ وضع الفراش لجثته

وثوى، مريضا خائفا أتوقعُ

 

شفقا عليه أن يزول مكانه

عنا فيبقى بعده المتفجّع

 

فليبكه أهلُ المدينة كلهم

والمسلمون بكل أرض تجزع

 

نفسي فداؤك من لنا في أمرنا

أم من نشاوره إذا نتوجع

 

ولننظر إلى ما جادت به نفس علي بن أبي طالب رضي الله عنه حزنا وأسى حين وثق حادثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

ألا طرق الناعي بليل فراعني

وأرّقني لما استقلّ مناديا

 

فقلت له لما رأيتُ الذي أتى

لغير رسول الله إن كنتَ ناعيا

 

فوالله لا أنساك أحمدُ ما مشت

بي العيس أو جاوزتُ في الأرض واديا

 

وكنت متى أهبط من الأرض تلعة

أرى أثرا منه جديدا وعافيا

 

جواد تشظى الخيلُ عنه كأنما

يرين به ليثا عليهن ضاريا

 

ليَبْكِ رسولَ الله خيلٌ كثيرة

تثير غبارا كالضبابة عاليا

 

أما حسان بن ثابت رضي الله عنه فأنشد واصفا حال المدينة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحال الصحابة وهم راجعون من دفنه، فقال:

بَطَيبَةَ رَسمٌ لِلرَسولِ وَمَعهَدُ

مُنيرٌ وَقَد تَعفو الرُسومُ وَتَهمَد

 

وَلا تَنْمَحي الآياتُ مِن دارِ حُرمَةٍ

بِها مِنبَرُ الهادي الَذي كانَ يَصعَدُ

 

وَواضِحُ آثارٍ وَباقي مَعالِمٍ

وَرَبعٌ لَهُ فيهِ مُصَلّى وَمَسجِدُ

 

بِها حُجُراتٌ كانَ يَنزِلُ وَسطَها

مِنَ اللَهِ نورٌ يُستَضاءُ وَيوقَدُ

 

ظَلَلتُ بِها أَبكي الرَسولِ فَأَسعَدَت

عُيونٌ وَمِثلاها مِنَ الجِفنِّ تُسعَدُ

 

أَطالَت وُقوفا تَذرِفُ العَينُ جُهدَها

عَلى طَلَلِ القَبرِ الَذي فيهِ أَحمَدُ

 

فَبورِكتَ يا قَبرَ الرَسولِ وَبورِكَت

بِلادٌ ثَوى فيها الرَشيدُ المُسَدَّدُ

 

وَبورِكَ لَحدٌ مِنكَ ضُمِّنَ طَيِّبا

عَلَيهِ بِناءٌ مِن صَفيحٍ مُنَضَّدُ

 

تَهيلُ عَلَيهِ التُربَ أَيدٍ وَأَعيُنٌ

عَلَيهِ وَقَد غارَت بِذَلِكَ أَسعُدُ

 

لَقَد غَيَّبوا حِلما وَعِلما وَرَحمَةً

عَشِيَّةَ عَلَّوهُ الثَرى لا يُوَسَّدُ

 

وَراحوا بِحُزنٍ لَيسَ فيهِم نَبيُّهُم

وَقَد وَهَنَت مِنهُم ظُهورٌ وَأَعضُدُ

 

يُبَكّونَ مَن تَبكي السَمَواتُ يَومَهُ

وَمَن قَد بَكَتهُ الأَرضُ فَالناسُ أَكمَدُ

 

وَهَل عَدَلَت يَوما رَزِيَّةُ هالِكٍ

رَزِيَّةَ يَومٍ ماتَ فيهِ مُحَمَّدُ

 

تَقَطَّعَ فيهِ مُنزَلُ الوَحيِ عَنهُمُ

وَقَد كانَ ذا نورٍ يَغورُ وَيُنجِدُ

 

يَدُلُّ عَلى الرَحمَنِ مَن يَقتَدي بِهِ

وَيُنقِذُ مِن هَولِ الخَزايا وَيُرشِدُ

 

إِمامٌ لَهُم يَهديهِمُ الحَقَّ جاهِدا

مُعَلِّمُ صِدقٍ إِن يُطيعوهُ يَسعَدوا

 

وبذا يمكننا القول إن الشّعر كان أحد أدوات التّاريخ الفريدة في توثيق أحداث سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وكان شاهدَ عيان مصدَّقا، فالشّعرُ حين يوثّق السيرة النبويّة ويؤرّخ تفاصيلها يُعدّ وسيلة تخدم علم التّاريخ خدمة جليلة، إذ يقدَّم بوصفه وثيقة تاريخيّة يمكن للمؤرّخين أن يعتمدوا عليها وينطلقوا منها في توثيق التاريخ وقراءته وتحليله، إضافة إلى ما فيه من دفقات شعورية تهزّ قلب المتلقّي وتأسر روحه بعد أن تستقرّ في عقله ووعيه.



اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading