الدبلوماسية العسكرية وسيلة الهند لتعزيز حضورها في أفريقيا | سياسة
برز خلال السنوات الأخيرة حضور متنام للقوة الهندية الصلبة في القارة الأفريقية، عبر مجموعة من النشاطات متعددة الأوجه والأبعاد، تمثل فيها “الدبلوماسية العسكرية” الإطار العام الذي تندرج تحته هذه الخطوات الهندية، وهو مصطلح يحمل في طياته الإشارة إلى استخدام القوات المسلحة في عمليات غير عنيفة أو نشاطات غير حربية بما يرمي إلى تعزيز أهداف السياسة الوطنية والخارجية للدولة.
ويرى الباحث الهندي المشارك في “مركز الدراسات الأمنية والإستراتيجية” (سيسكوب) جيوت شيكار سينغ أن دبلوماسية الدفاع ضرورية لصياغة العلاقات الإستراتيجية بين الطرفين، حيث أصبح التعاون في مجال الدفاع والأمن الركيزة الجديدة لعلاقات نيودلهي مع العديد من الدول الأفريقية، مما يجعل منه جزءاً من تحول الهند الإستراتيجي نحو توظيف السلام وتوسيع مواردها وقدراتها الدفاعية.
طموحات نيودلهي
تتعدد الأهداف التي ترمي إليها نيودلهي من تطوير روابطها العسكرية والأمنية مع القارة الأفريقية، إذ يكتسب التعاون في هذه المجالات “أهمية إستراتيجية هائلة” وفقاً لدراسة نشرها اللواء جي جي فيدي الذي شغل منصب رئيس هيئة أركان الدفاع المتكاملة بالجيش الهندي حتى عام 2009.
وفي هذا السياق تمثل العلاقات العسكرية مدخلاً هاماً لتوثيق الروابط مع الدول الأفريقية، وبالتالي توسيع الهند لنفوذها الجيوسياسي على المستوى الدولي وتأمين مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية، كما أنه يعزز من صورتها كقوة عالمية صاعدة.
وبجانب ما سبق يبدو التنافس الصيني الهندي حاضراً في مخيلة راسمي إستراتيجية نيودلهي الأفريقية، حيث يعتبر مواجهة حضور بكين المتعاظم في القارة الأفريقية هدفاً رئيسياً لهذه الإستراتيجية من خلال السعي لموازنة نفوذ “التنين الأحمر” من جهة، والعمل على تقديم نفسها كشريك بديل للدول الأفريقية من جهة أخرى.
وتمثل تنمية الاقتصاد القائم على القطاع الأمني العسكري جزءاً هاماً من أهداف الهند التي تسعى لفتح أسواق جديدة لصناعاتها الدفاعية، حيث تعاني القارة الأفريقية من طيف واسع من المهددات الأمنية، مما يجعلها سوقاً خصبة للمنتجات العسكرية والأمنية والتي تزيد في الوقت نفسه من النفوذ السياسي للأطراف المصدرة.
كما يؤشر تعزيز نيودلهي لحضورها البحري في المياه الأفريقية إلى الأهمية التي توليها لتعزيز أمن الممرات البحرية الحيوية للتجارة الهندية، خاصة في مناطق غرب المحيط الهندي والبحر الأحمر الإستراتيجية، بالنظر إلى أن ما يقرب من 80% من وارادت الهند النفطية و95% من حجم تجارتها يتم نقله عبر تلك المياه.
وهذه الرؤية تفسر إرسال الهند 12 سفينة حربية إلى بحر العرب وخليج عدن بعد انطلاق الهجمات الحوثية على المصالح الإسرائيلية أواخر عام 2023، كما أنها تفسر النشاط الهندي في دول الساحل الشرقي لأفريقيا مثل كينيا وتنزانيا وموزمبيق.
أدوات الدبلوماسية العسكرية الهندية
تعتمد الهند في تنفيذ دبلوماسيتها العسكرية على العديد من الأدوات، من أهمها التدريب وبناء القدرات العسكرية، ووفقاً لمقال منشور على موقع المجلس الهندي للشؤون العالمية فإن برنامج التعاون الفني والاقتصادي الهندي “آي تي إي سي” يشمل متدربين من ثلث الدول الأفريقية، حيث يغطي التدريب مجالات مختلفة كالأمن والدراسات الإستراتيجية وإدارة الدفاع.
ويندرج في هذا السياق التدريبات العسكرية الميدانية المشتركة التي يجريها الجيش الهندي مع نظرائه من الأفارقة والمعروفة باسم “أفنديكس” والتي شهدت مشاركة ما يزيد على 20 دولة أفريقية بالنسخة الثانية للتدريب في مارس/آذار 2023، انخرطت 9 منها في التدريبات كإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا، في حين اكتفت 12 دولة بدور المراقب كالكاميرون وغينيا الاستوائية وجنوب أفريقيا.
وبالنظر إلى أهمية الممرات البحرية، فقد حظيت الجهود المتعلقة بالتعاون في مكافحة المهددات الأمنية في ذلك القطاع باهتمام نيودلهي، حيث أجرت أول مناورة بحرية ثلاثية على الإطلاق مع أفريقيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ضمت أيضا القوات البحرية التنزانية والموزمبيقية، وسبق ذلك في سبتمبر/أيلول وصول السفينة “آي إن إس تاركاش” إلى ميناء لاغوس النيجيري للمرة الأولى.
وتعد الهند أحد أكبر الدول المشاركة في قوات حفظ السلام الأممية، وتؤكد مقالة منشورة في مركز “سياسات من أجل الهند” عام 2022 أن 80% من القبعات الزرقاء الهندية منخرطة في عمليات في أفريقيا، بما يتضمن دولاً كساحل العاج وليبيريا والكونغو الديمقراطية.
وتعمل هذه القوات على تعزيز القوة الهندية الناعمة من خلال مشاركتها في العديد من الأنشطة الإنسانية المرتبطة بالتعاون العسكري المدني.
كما يشكل الطابع المؤسسي للتعاون العسكري أحد جوانب الدبلوماسية العسكرية لنيودلهي بالقارة الأفريقية، حيث عقد الجانبان أول اجتماع سري لقادة الجيوش الهندية الأفريقية على هامش تدريب (أفنديكس) عام 2023، كما يجري الطرفان أيضاً حواراً دفاعياً سنوياً يتزامن مع معرض الدفاع الهندي.
“صنع في الهند”
شهدت الصناعات الدفاعية الهندية تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة مستفيدة من الإجراءات الحكومية الداعمة لزيادة توطين هذه الصناعات وتعزيزها تحت مبادرة “صنع في الهند” حيث يصنف تقرير صادر عام 2023 عن معهد ستوكهولم لدراسة السلام الدولي الهند باعتبارها رابع أكبر المنفقين على السلاح في العالم بما قيمته 83.6 مليار دولار.
في حين غرد وزير الدفاع الهندي راجات سينغ في 5 يوليو/تموز 2024 بأن بلاده سجلت أعلى نمو على الإطلاق في قيمة الإنتاج الدفاعي الفترة 2023-2024، بزيادة قدرها 16.8% من قيمة الإنتاج في السنة المالية المنصرمة.
وتهدف الهند -وفق تقرير منشور عام 2023- إلى رفع صادراتها السنوية من الأسلحة من نحو 1.7 مليار دولار إلى 5 مليارات في السنوات المقبلة، حيث يذهب أقل من 20% من الصادرات العسكرية الهندية إلى دول أفريقية كإثيوبيا، وموزمبيق، وموريشيوس، وسيشل.
وفي هذا السياق، يشير الخبراء الهنود إلى أن تركيز بلادهم في السوق الأفريقية ينصب على بيع المنتجات العسكرية ذات الطبيعة الدفاعية، بما في ذلك الآليات المدرعة وأجهزة الرادار ومعدات الاتصالات، وأن السلاح الهندي يتميز بأسعاره “المعقولة” قياساً إلى نظيره من الدول الغربية، كما أن أهمية هذا القطاع تتجاوز العائد المادي إلى أن الاعتمادية في مجال استيراد السلاح تتُرجم في النهاية إلى نفوذ سياسي.
وقد وضح تقرير صادر عن بنك التصدير الهندي أواخر عام 2022 تنامي دور نيودلهي كمورد للسلاح إلى القارة الأفريقية، فبين عامي 2017 و2021 بلغت حصة موريشيوس 6.6% من صادرات الهند من الأسلحة إلى أفريقيا، تلتها موزمبيق (5%) وسيشيل (2.3%) كما أنشأت وزارة الدفاع الهندية أطر تعاون مع جنوب أفريقيا، وكينيا، وتنزانيا، وموريشيوس، وسيشيل، ومدغشقر.
تحديات وعوائق
ولأن الطموحات دوماً تختلف عن الواقع فإن الطريق إلى تحقيق تطلعات نيودلهي إلى إحداث اختراقات كبيرة في القارة الأفريقية تكتنفه العديد من العوائق، يأتي على رأسها محدودية الموارد قياساً بقوى كبرى تطمح الهند إلى منافستها في القارة كالصين.
فرغبة الهند في كبح تزايد النفوذ الصيني، غرب المحيط الهندي والسواحل الأفريقية، عبر مبادرة الحزام والطريق يواجه بتواضع المخصصات التي يمكن توجيهها لدعم أسطولها البحري، حيث يبلغ ما تنفقه نيودلهي على هذا الأسطول ما يقارب 15% من مجموع إنفاقها العسكري، في حين يبلغ ما تنفقه بكين على قواتها المسلحة 3 أضعاف ما تنفقه نظيرتها الهندية.
في حين أن محاولات الهند للقيام بقفزات واسعة في سوق السلاح الأفريقي تواجه بحقيقة أن روسيا تعد المورد الأول لدول القارة وفقاً لتقرير معهد ستوكهولم للسلام العالمي الذي أورد تفرد موسكو بـ26% من الصادرات العسكرية الموجهة لدول جنوب الصحراء، بجانب أن تسليح بعض الدول تاريخياً يعتمد على العتاد الروسي، مع عدم إغفال تزايد النفوذ الروسي بالقطاع الأمني العسكري في أفريقيا مما يسد الطريق أمام نيودلهي في بعض البلدان.
وبالنظر إلى أن الهدف النهائي للهند يتمثل في توسيع نفوذها الجيوسياسي والحصول على قطع من الكعكة الأفريقية، ورغم دعم الولايات المتحدة لمثل هذا التوجه الذي يعمل على منافسة بكين، فإن إحدى مشكلات نيودلهي أنها “وصلت الحفل متأخرة”.
فالصين، التي تطمح الهند لمنافستها، اكتسبت نفوذاً راسخاً في مناطق واسعة من أفريقيا مستفيدة من ملاءتها المالية التي لا تستطيع الهند مجاراتها فيها، كما تعج القارة بمتنافسين أقل وزناً كتركيا التي أثبتت حضوراً كبيراً بالقرن الأفريقي ومناطق من غرب القارة، وهي كذلك تمتاز عن نيودلهي بعوامل ثقافية تهيئ لها أرضية للقبول أكثر من الهند البعيدة جغرافياً وثقافياً.
وتعد الدبلوماسية العسكرية الهندية مع أفريقيا جزءاً من إستراتيجية أوسع لتعزيز نفوذ نيودلهي على الصعيد العالمي وتأمين مصالحها الإستراتيجية، مستخدمة أدوات مختلفة كمشاركتها طويلة الأمد في عمليات حفظ السلام بالقارة الأفريقية، وتوسيع دورها بالأمن البحري وسوق السلاح في القارة.
وفي سياق المنافسة المحتدمة مع قوى مختلفة على رأسها الصين فإن نيودلهي بحاجة إلى رسم إستراتيجية شاملة ومتوازنة تضفر تعاونها مع دول القارة على مستويات مختلفة تتدرج من الأمن إلى الاقتصاد إلى الثقافة، بجانب تطوير صناعاتها الدفاعية بما يمكنها من تلبية احتياجات البلدان الأفريقية المختلفة وتقديم وصفات إبداعية لتفكيك تحدياتها الأمنية.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.