إمبراطورية “أبو هلالين”.. لماذا يعد الكبتاغون أخطر مخدر وصل إلى العالم العربي؟ | سياسة
في غرفة ذات إضاءة خافتة تملؤها القمامة، انكب أحمد (اسم مستعار) على مكتبه المكتظ محاولًا إيجاد شريط الدواء الذي يبحث عنه منذ ساعات. بعينين متسعتين تطاردان النشوة، لم يتذكر الشاب، الذي كان طالبًا جامعيًّا نابغًا حتى وقت قريب، كيف كانت حياته قبل أن يبدأ تعاطي حبة الكبتاغون المرسوم عليها قوسان؛ وهو ما جعلها تشتهر بأبي هلالين.
كان الأمر قد بدأ قبل أشهر بمحاولة التركيز والبقاء مستيقظًا لأيام من أجل التحضير لاختبارات نهاية العام، حينها اقترح عليه بعض الأصدقاء تجربة “الدواء” الذي لن يساعده على الدراسة فحسب، بل سيعطيه شعورًا بالسعادة لم يشعر به منذ أن كان طفلًا! الآن، لم يعد “أحمد” مستعدًا لتصور حياته من دون الدواء الذي أدمنه، وصار شديد العصبية والتوتر إذا أدرك أن مخزونه على وشك النفاد. ليست هذه المعاناة من نصيب أحمد وحده، إذ إن قصته هي قصة عشرات آلاف الشبان العرب الذين وقعوا في براثن إدمان هذا المخدر، الذي تحاول سلطات دول عدة محاربته بكل الطرق.
فخلال الأسبوع الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2023 أعلن الجيش الأردني إحباط عملية تهريب لكميات كبيرة من المواد المخدرة على رأسها الكبتاغون، قادمة من سوريا لتمر إلى الدول الخليجية من خلال أراضي الأردن. حينها قال الجيش الأردني في بيان على موقعه الإلكتروني الرسمي، إن إحباط التسلل والتهريب جاء عبر عملية نوعية، رغم الظروف الجوية المعاندة وطبيعة تضاريس المنطقة الصعبة. وبحسب البيان، فقد عثر على 119 ألف حبة كبتاغون، و14 ألفا و800 حبة ترامادول، و1748 كف حشيش (وهي قطعة من مادة الحشيش المخدر بحجم كف اليد).
الحادث لم يكن استثناءً أو مصادفة، فمنذ أوائل عام 2022، كان من الواضح أن الحدود الشمالية للأردن مع سوريا أصبحت موقعًا لصراع شبه حربي، حيث تصاعدت الاشتباكات العنيفة بين حرس الحدود الأردني ومهربي المخدرات وكانت قوات الأمن الأردنية قد تبنت سياسة “إطلاق النار بقصد القتل” اتجاه تجار المخدرات على حدودها الشمالية، وبحلول نهاية العام نفسه قتلت أكثر من 35 من المشتبه في أنهم مهربو مخدرات، وفي مايو/أيار 2023 صعد الجيش الأردني من استخدامه للعنف فقتل أحد زعماء المخدرات المشتبه فيهم خلال هجوم داخل الأراضي السورية نفسها.
ولا يقف الأمر عند حدود الأردن، إذ ورد اسم الكبتاغون كثيرا في الأخبار القادمة من كل الدول العربية تقريبًا خلال السنوات القليلة الماضية، وبشكل خاص الأخبار الواردة من المملكة العربية السعودية. وربما كان من أكثرها لفتًا للانتباه ما ورد منتصف عام 2022 حينما أعلن عن إحباط محاولة تهريب كمية كبيرة من حبوب الكبتاغون بلغت نحو 15 مليون حبة، عُثر عليها مُخبأة في “آلة لصناعة الكتل الخرسانية” وردت عبر ميناء جدة الإسلامي، بحسب هيئة الزكاة والضريبة والجمارك السعودية.
وفي أغسطس/آب من العام نفسه أعلنت المديرية العامة لمكافحة المخدرات عن ضبط كمية مخدرات قياسية في البلاد، حيث تم اكتشاف 47 مليون قرص مخدر غير قانوني في شحنة دقيق، وهذا يعادل حوالي 8 أطنان من هذه الحبوب. لم يتم تأكيد طبيعة الحبوب رسميا، إلا أن الاحتمال الأكبر هو أنها من الكبتاغون مثل معظمها.
أما في مصر، وفي مطلع عام 2023 أعلنت وزارة الداخلية المصرية عن ضبط أكثر من 800 ألف قرص كبتاغون تم تصنيعها في القاهرة، وضبطت قبل أن ترد إلى سلاسل التوزيع الأولية، ومنها إلى المتعاطين. وفي السودان ضبطت السلطات مليوني حبة كبتاغون في أغسطس/آب من العام نفسه كانت في طريقها للتوزيع على محليتي شندي وعطبرة.
ولو قررت أن تبحث قليلا عن اسم الكبتاغون عبر أي محرك بحث لوجدت أن “أبو هلالين” (هكذا يطلق عليه ضمن أسماء عدة) وصل إلى كل الدول العربية تقريبًا، ولكنه بشكل خاص تركز في دول الخليج العربي.
وفي تقرير مكتب الأمم المتحدة المعنى بالمخدرات والجريمة لعام 2023، جاء أن سوق الكبتاغون آخذ في التوسع عامًا بعد عام، ويكفيك أن تعرف أن أكثر من مليار حبة من مخدر الكبتاغون ضُبطت في الجزيرة العربية فقط بين عامي 2019 و2022، وهو ما يكفي لتغطية نحو ستة ملاعب كرة قدم.
لا شك في أن ذلك يدفع إلى التأمل، عبر النظر في معطَيين رئيسيين، أولهما يتعلق بالكثافة، حيث إننا لا نتحدث عن شحنة واحدة تُضبط كل عام، بل عشرات من الشحنات تمثل في مجملها أقل بكثير من تلك التي وصلت إلى المستهلكين. وثانيها يتعلق بطبيعة المخدر نفسه، فقد كان العالم العربي عادة منطقة للتجارة غير المشروعة للمواد الأفيونية ومستخرجات القنب (مثل الحشيش والماريجوانا أو البانجو)، أما الكبتاغون فهو ضيف جديد جاء ليحتل الصدارة، واجتمعت فيه عدة خصائص جعلته أخطر مخدر يصل إلى العالم العربي على الإطلاق بحسب وصف عدد من المراقبين.
شديد الإدمان
تم تصنيع الفينثيلين، وهو المركب الكيميائي المعروف باسم الكبتاغون، في ألمانيا للمرة الأولى عام 1961 ليحل محل الأمفيتامين، وهو منشط للجهاز العصبي استُخدم لعلاج اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة والخدار والاكتئاب وعدد من الاضطرابات الأخرى. قُدم الدواء في شكل أقراص تحتوي على 50 ملليغرام من الفينثيلين، واستُخدم طبيا مدة ربع قرن تقريبا، لكنه فقد شعبيته بين الأطباء بسبب ارتباطه بأعراض ثلاثة خطِرة، هي الهلوسة والسلوك العدواني والإدمان، ومنذ ذلك الحين تم حظره طبيا. وقد تمت أول عملية ضبط للكبتاغون المُتاجَر به بشكل غير مشروع في ألمانيا عام 1984.
مثل بقية الأمفيتامينات، ينتمي الكبتاغون إلى منشطات الجهاز العصبي، حيث يعمل على تحسين الوعي واليقظة لدى متعاطيه، ويرفع من القدرة على الأداء بشكل عام، وإلى جانب ذلك يسبب اندفاعًا سريعًا للنشوة وشعورًا بالبهجة والتحفيز في الجسم. سبب هذه النشوة هو إثارة الكبتاغون لنواقل كيميائية في الدماغ؛ خاصة “الدوبامين” الذي يُعرَف باسم “هرمون السعادة”، وهو مسؤول عن تحقيق المتعة والشعور بالثقة والنشاط والتحفز لتحقيق الهدف، والشعور بالمكافأة.
تخيل مثلا أنك في انتظار طرد قادم بهدية ثمينة من الخارج، هدية تنتظرها منذ زمن، قد تكون هاتفًا جديدًا أو حاسوبًا محمولًا مثلًا بخصائص ممتازة ستساعدك على الدراسة والألعاب الإلكترونية وربما على العمل، أو تكون في انتظار أي شيء ثمين. ما هو شعورك حينما تستيقظ كل يوم وتكون أول فكرة تأتي إلى دماغك هو ذلك الطرد الثمين المنتظر؟ سبب هذا الشعور هو تلك المجموعة من الهرمونات والنواقل العصبية التي تجري فيك. الآن ضاعف هذا الشعور بالتحفيز والمتعة عشرات، بل مئات الأضعاف، هذا هو ما يشعر به متلقي تلك المادة المخدرة.
ينتج الكبتاغون تأثيرات سريعة ومكثفة في الدماغ، إذ يُبلغ متعاطوه عن مشاعر بالنشوة والثقة والمناعة (الإحساس بأنك منيع في مواجهة الأحداث والأشخاص) في غضون دقائق من تلقي الجرعة، وعلى عكس الكوكايين مثلا، فإن جرعة واحدة من هذا المخدر تحافظ على هذه التأثيرات عدة ساعات.
يزيد هذا التأثير السريع الممتد، من سهولة إدمان المخدر، فيرغب الشخص في الحصول على جرعة أخرى بعد تلقي السابقة، ويبدأ مع الوقت في بذل الجهد في سبيل ذلك بغض النظر عن تأثر حافظة نقوده، وفي مرحلة متقدمة قد يصل الأمر إلى درجة السرقة من أجل الحصول على المخدّر.
الآن، أصبحت في أسر المخدر. وكل ما سبق من مشاعر بالراحة والنشوة سينقلب عليك بأقسى مما كنت تظن، الاستخدام الممتد للكبتاغون يقود المريض إلى الحاجة إلى جرعات أعلى لتحقيق نفس التأثيرات المرغوب فيها، لأن الجسم يتكيف مع المادة المخدرة بشكل يحتاج إلى تركيزات أكبر منها، ومع التوقف المفاجئ عن استخدام الكبتاغون تظهر أعراض الانسحاب مثل التعب والاكتئاب والقلق والرغبة؛ مما يعزز السلوك الإدماني.
ومع الاستخدام المزمن تظهر الآثار الجانبية، التي قد تكون غاية في الخطورة، مثل الذهان والتشوهات البصرية والهلوسة وقصور القلب الحاد واحتشاء عضلة القلب الحاد ونوبات الصرع، وقد تم الإبلاغ عن قصور القلب الحاد بشكل واضح في سوريا منذ بداية الثورة ثم سيطرة النظام على مجريات الأمور في غالبية سوريا، التي تعد مركزا للكبتاغون في العالم العربي، وهو أمر سنتطرق إليه بالتفصيل بعد قليل.
صراع مخدرين
لما سبق من أسباب، يعد الكبتاغون مادةً شديدة الإدمان مثل غيره من المنشطات العصبية الشبيهة، ومن ثَمّ فهو قنّاص كيميائي، يسهل انتشاره خاصة داخل فئات عمرية تبدأ من المراهقة وتصل إلى الشباب، وهو يشبه في ذلك الميثامفيتامين، الذي يشتهر حاليًّا كذلك في العالم العربي تحت أسماء “الشابو” و”إتش بوز” و”الميث الكريستالي” و”الآيس”، إلخ.
والواقع أن هناك أسبابًا دفعت إلى تحول سوق المخدرات العربي لتميل الكفة ناحية الكبتاغون مع الوقت في مواجهة الميثامفيتامين، الذي يؤدي نفس الوظيفة، وهو أنه قد يكون أخف في الأعراض الجانبية من الميثامفيتامين وأقل تسببا في الوفاة (ربما لأنه يخترق أنسجة المخ بشكل أبطأ من باقي الأمفيتامينات).
وهذه بالتحديد هي الرسالة التسويقية لمروجي الكبتاغون في العالم العربي، الذين ينتشرون على الإنترنت كبيئة عمل رئيسية، فيقول لك أحدهم إنه آمن وكان يُستخدَم علاجًا في وقت سابق، وإن له قدرة كبيرة على تحقيق اليقظة والوعي الظرفي والقدرة على أداء المهام بشكل عام، وهو تحديدًا الهدف الذي يقع بسببه طلاب الجامعات (وكذلك الموظفون في مهام تتطلب تركيزا ولياقة كالسائقين) في أسر المخدر.
لكن ذلك خاطئ تمامًا لعدة أسباب، أولها يتعلق بأعراضه الجانبية كما أسلفنا، وكذلك فإنه من المرجح أن يتسبب الكبتاغون في حدوث تغييرات لا رجعة فيها في دوائر الدماغ التي تتحكم في الانفعالات والحُكم على الأمور من حولك، مما يؤدي إلى سلب قدرة الشخص على التفكير بعقلانية والتحكم في ذاته.
أضف إلى ذلك أن أقراص الكبتاغون ليست نقية عادة، فقد كشفت اختبارات السمية أكثر من مرة عن أنها تحتوي على مركبات أخرى مثل الأمفيتامين والميثامفيتامين والبروكايين والكافيين والميترونيدازول وغيرها، والواقع أن العديد من الأقراص التي تمت مصادرتها في سوق المخدرات في الأعوام الأخيرة والتي تباع تحت اسم كبتاغون تحتوي أصلا على القليل جدا من مادة الفينثيلين والكثير من الأمفيتامينات الأخرى مثل الميثامفيتامين الممزوجة بعدد من الملوثات؛ مما يفند ادعاء الأمان، ويلقي بالمتعاطي في براثن أعراض جانبية قاسية ترتبط في مجملها بالإجرام والتدهور الاجتماعي، حيث تمنع عقل المتعاطي من التعامل بشكل طبيعي، فينخرط في نشاطات غاضبة.
وغالبًا ما يكون الكبتاغون جزءا من تعاطي مخدرات متعددة، فيفتح الباب بعد استخدامه لمزيج من المخدرات الأخرى التي تسيطر على المتعاطي تماما، فيدمج عادة مع المواد الأفيونية (الميثادون بشكل خاص)، وكذلك مع الكحول ومنتجات القنب، مما يعني أن الكبتاغون يمكن أن يكون مدخلا للإدمان.
“كوكايين الفقراء” السهل التصنيع الرخيص السعر
هناك جانب اقتصادي يجدر النظر إليه في هذا السياق، فمقارنة بأنواع المخدرات الأخرى يسهل تصنيع الميثامفيتامين والكبتاغون ومن ثَمّ يكونان أرخص. هناك اسم شهير للكبتاغون بدأ يشتهر قبل عدة سنوات وهو “كوكايين الفقراء”. فهو يعطي تأثير مخدر شبيه مع فارق كبير في السعر. والواقع أن هذا عامل مهم في هذه السوق القذرة، وعلى سبيل المثال زاد استخدام الكبتاغون من قبل متعاطي المخدرات في الشوارع في ألمانيا في أوقات مختلفة في الثمانينيات عندما كان الكوكايين والمخدرات المنشطة الأخرى قليلة الوجود هناك أو باهظة الثمن.
وكانت دراسة صادرة بدورية “كرايم آند جاستيس” (الجريمة والعدالة) قد رصدت استجابة مباشرة لتغيرات أسعار الأمفيتامينات من أقرباء الكبتاغون في مدينة سيدني الأسترالية، حيث كشفت النتائج أن مشتريات تلك المخدرات تنخفض وترتفع بناء على السعر كعامل رئيسي، فمثلا أدت زيادة الأسعار بنسبة 10% إلى انخفاض بنسبة 18% -19% في المبيعات، وفي نفس التجارب استجاب متعاطو الهيروين للتغيرات في سعر الهيروين بزيادة مشترياتهم بشكل كبير من الأمفيتامينات التي تعد أرخص حتى مع زيادة أسعارها.
يؤشر ذلك على المشكلة الثانية التي تواجه انتشار الكبتاغون في العالم العربي إلى جانب قدراته الكيميائية على إيقاع المتعاطين في حبائله، وهي رخص الثمن الذي يساعد على الانتشار. أضف إلى ذلك مشكلة ثالثة وهي أنه من السهل نسبيًّا الحصول على المواد الكيميائية اللازمة لإنتاج كل من الميثامفيتامين والكبتاغون، وكذلك المعدات اللازمة لعملية التحضير، والمشكلة الكبرى أن الأمر لا يجري فقط على المعامل المتخصصة التي تبنيها العصابات الكبرى، بل من السهل جدا صناعة “الميث” في معامل منزلية وفي أي مكان وبمواد يسهل الحصول عليها، ولا يتطلب تصنيع المخدر أي معرفة أو تخصص لأنه يتم تركيبه من مواد معروفة ورخيصة وبنسب وكميات معلومة أيضا، ولذلك رصد بالفعل تصنيع هذه المخدرات منزليا في كثير من دول العالم.
يؤثر ذلك في أمور هذا المخدر بما في ذلك خريطة الانتشار، فالعصابات الكبرى تنشر المخدرات في سلاسل توريد ثابتة تنبع عادة من نقطة محددة في كل مدينة، ويسهل ذلك مهام الجهات الشرطية، أما إذا صنع المخدر في المنزل فيمكن أن تكون بؤر انطلاقه متعددة ومنتشرة في كل مكان وعشوائية.
بل رصدت إحدى الدراسات الصادرة من جامعة ماسي في نيوزيلندا تلك النقطة، حيث كشفت أن المدن الصغيرة يبدو أنها تحتوي على نسبة أعلى من الميثامفيتامين مقارنة بمنتجات القنب مثل الماريجوانا أو الحشيش التي يفترض أنها أكثر انتشارا! حيث أفاد 54% من مستخدمي الأمفيتامينات الذين شاركوا في استطلاع عبر الإنترنت في نيوزيلندا بأن التوافر الحالي لتلك المخدرات “سهل للغاية” مقارنة بـ 14% من متعاطي القنب الذين أفادوا بأن الماريجوانا “سهلة للغاية”.
يمكن صنع حبة واحدة من الكبتاغون بتكلفة قليلة جدًّا (سنتات قليلة مقابل 3 إلى 25 دولارًا للقرص الواحد عند المشتري النهائي في المملكة العربية السعودية مثلا)، ويتطلب تصنيع الدواء القليل من المعدات ومعرفة كيميائية بدائية فقط، ومرافق للإنتاج صغيرة الحجم سهلة التنقل من مكان لآخر.
وعلى النقيض من المخدرات النباتية المصدر مثل منتجات القنب، فإن الكبتاغون عملية صناعية ليس لها روابط مباشرة بأرض زراعية، وبمن ثَمّ يمكن نقل عملية الإنتاج إلى أماكن متعددة، أضف إلى ذلك أنه يتم إنتاج تلك الحبوب في مختبرات صغيرة، فيُضعف ذلك احتمال اكتشافها وتدميرها مقارنة بحقول الخشخاش الكبيرة أو الماريجوانا مثلا. ونظرًا إلى أنه يمكن وضع 5000 حبة من الكبتاغون داخل عبوة صغيرة مثل علب الأحذية على سبيل المثال، فمن السهل جدًّا إخفاء هذا المخدر لتصديره إلى الخارج.
من سوريا إلى العالم
بعد حظره في الثمانينيات والتسعينيات، أنتجت حبوب غير شرعية من الكبتاغون في مختبرات تتبع عصابات إجرامية مقرها الرئيسي كان جنوب شرق أوروبا، وتحديدًا في تركيا وبلغاريا وسلوفينيا وصربيا والجبل الأسود، ومن هنا تم تهريبه إلى الأسواق الاستهلاكية الرئيسية في شبه الجزيرة العربية، وفي الألفينيات من القرن الماضي تحولت خطوط الإنتاج بشكل جزئي لتصل إلى لبنان، الذي أصبح المنتج الرئيسي في الشرق الأوسط.
في هذا الوقت كانت سوريا نقطة عبور للمخدرات القادمة من أوروبا وتركيا ولبنان والمتجهة إلى الأردن والعراق والخليج العربي، ولكن منذ 2011 تحولت سوريا من دولة عبور إلى دولة منتجة للكبتاغون. غيّر ذلك كل شيء، فبجانب ما سبق من خصائص للكبتاغون جعلته المخدر الأخطر بالعالم العربي، كان تحول سوريا إلى منتج لهذا العقار هو العامل الأهم والأكثر تأثيرا.
مع التوتر السياسي والعسكري تصبح أية دولة فرصة ممتازة لتجارة المخدرات، وكانت سوريا نموذجًا مثاليًّا في هذه الحالة، حيث امتلكت البلاد شبكة طرق جيدة جدا، وإمكانية ممتازة للوصول إلى الموانئ. على الجانب الآخر تقع سوريا إلى جوار دولة منتجة للمخدر (لبنان) وفي منتصف الطرق التجارية الهامة التي يمكن أن تنقل المخدر إلى تركيا وشبه الجزيرة العربية.
الأهم من ذلك أن هناك اتهامات متزايدة تشير إلى تورط نظام بشار الأسد نفسه في إنتاج وتجارة الكبتاغون، فهو ينتج بشكل أساسي في مناطق وينقل بسهولة من موانئ خاضعة لسيطرته، وتشير بعض التقديرات إلى أن معظم العملات الأجنبية القادمة إلى سوريا هي نتيجة لتجارة الكبتاغون.
والواقع أن الفرص الاقتصادية التي توفرها المخدرات مرغوب فيها بشكل خاص في مناطق الصراع، فالمواد الكيميائية قابلة للنهب بسهولة، ويصعب إيقاف خطوط سيرها لعدم وجود تأمين (أو لأن التأمين نفسه يخدمها)، ويسهل الاتجار بها في ظروف متوترة، وتمتلك هوامش ربح مرتفعة جدًّا، ومن ثَمّ يمكن للعوامل السابقة أن تبني اقتصادًا غير مشروع واسع النطاق وهو ما وقع في سوريا.
لا يقف الأمر عند العالم العربي، بل يتوسع تهريب الكبتاغون عالميًّا من نقطة واحدة مركزها الحالي هو سوريا، وفي السنوات الأخيرة اعترضت السلطات المختصة شحنات في اليونان وإيطاليا وماليزيا وهولندا وبريطانيا ودول أخرى؛ مما يشير إلى أن شبكات الكبتاغون تتوسع بحثًا عن أسواق جديدة.
ووفقًا لتقرير صادر عن مركز الرصد الأوروبي للمخدرات والإدمان، فإن أوروبا حاليًّا تعد مركز عبور رئيسي للكبتاغون، بمعنى أن الأقراص تهرب إليها من سوريا ويعاد تغليفها وتنويع وسائل تهريبها، ثم تسافر إلى دول أخرى بما في ذلك الخليج العربي نفسه، وبالطبع فإنها أثناء ذلك توزع في دول أوروبا، وهو ما أوصلها إلى الجانب الآخر من الأطلسي في الولايات المتحدة.
المخدرات والصراع
تخدم مبيعات الكبتاغون سوقين متميزين ومربحين في تجارة كهذه، الأول الشباب في الفئات العمرية الصغيرة، وبشكل خاص من أصحاب المستوى المادي المرتفع، والثاني المقاتلون في مناطق النزاع، ولهذا قصة طويلة تصل إلى أواخر الثلاثينيات، إذ تم توزيع الأمفيتامينات خلال الحرب العالمية الثانية في معسكرات الحلفاء والمحور، بل إنه بسبب بيع فائض الحرب الهائل، استمرت هذه الموجة الأولية من استخدام الميثامفيتامين حتى أواخر الأربعينيات، وتخطى الأمر اليابان وشرقي آسيا بشكل عام لينطلق على نطاق واسع في أوروبا وأمريكا الشمالية.
والواقع أن لهذا تاريخًا طويلًا منذ عهود اليونان والرومان القدماء الذين ربما دخلوا المعركة وهم في حالة سُكر، بل إنه بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كان الجيش البريطاني في حالة سكر بانتظام واحتاج 36 ألف جندي بانتظام إلى 550 ألف غالون من مشروب الروم سنويًّا إضافة إلى مخصصات لمزيد من المشروبات الكحولية.
الأمر ذاته يجري على الكبتاغون الذي ينضم إلى نفس الفئة من المنشطات مثل الأمفيتامينات، ويُطلق عليه في هذا السياق لقب “الشجاعة الكيميائية” بسبب استخدامه في العمليات العسكرية وأعمال الشغب، للأسباب السالف ذكرها، والمرتبطة باليقظة والقدرة على التحمل، إذ يعطي ذلك المقاتل شعورًا بأنه لا يقهر.
وفي حين أن المخدرات تستخدم في العديد من الصراعات، من ميانمار إلى أفغانستان ومن بيرو إلى سريلانكا بحسب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فإن الكبتاغون بالنسبة لفريق من الباحثين يعد طفرة في هذا النطاق، لأنه أصبح يستخدم في أعمال العنف بشكل عام ونقصد هنا أعمال الشغب وليس فقط الحرب.
وبشكل عام يتفق الباحثون على أن هناك علاقة واضحة بين المخدرات والصراع. نعم، لا تتسبب المخدرات بشكل مباشر في حدوث حروب وصراعات، ولكنها تؤدي دورًا مهمًّا في إطالة مدة الحرب وحدتها. والمشكلة أن الأمر لا يقف عند حدود الدول غير المستقرة سياسيًّا، بل يتخطاها ويعبر حدودها.
مثلا، وفي دراسة نشرت بدورية “ميدترينيان بولتيكس” منتصف العام الماضي، جاء أن هناك اعترافًا واسع النطاق في الأردن بأن سوريا بنظامها السياسي المضطرب هي المسؤولة بشكل مباشر عن زيادة تهريب الكبتاغون إلى الأردن حيث إن الكبتاغون والحشيش والميثامفيتامين مصدرها سوريا بشكل أساسي، ومن ثم لبنان والعراق، لأن هذه البلدان تعاني من مشاكل أمنية. (وتقول الدراسة كذلك إنه بحلول عام 2022 كان هناك اتفاق في عمّان على أن الحكومة السورية نفسها أصبحت متورطة في تهريب الكبتاغون).
فوضى سياسية
أضف إلى ذلك نقطة أخرى هامة، وهي أنه خلال أوقات النزاع العسكري تزدهر تجارة المخدرات بسبب عوامل تتعلق بسكان تلك المناطق من المدنيين أنفسهم، فمع التوتر الدائم والصدمات المرتبطة بالحرب وانخفاض الدخل وارتفاع نسب البطالة وسرعة حدوث التغيرات الاجتماعية تزداد احتمالات أن يلجأ الأفراد إلى المخدرات كآلية للتكيف مع قسوة الحدث، وقد أظهرت مجموعة كبيرة من الأبحاث وجود علاقة واضحة بين تعاطي المخدرات والإصابة بالصدمات وأعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
ومع توفر المخدرات بسبب اختلال البنية التحتية للدولة الواقعة في قلب الصراع، فإن الأمر يشبه وضع النار إلى جوار البنزين، وللأسف فإن العالم العربي ليس بمنأى عن الصراعات العسكرية، وهو أمر يجعل دخول المخدر إلى دولة ما يشبه تفشي السرطان في الجسد، فيشتبك بكل جوانبها، ويسهل الوصول إليه بالنسبة لغالبية السكان.
يجتمع ما سبق من سياقات علمية واجتماعية وسياسية وعسكرية لوضع الكبتاغون في مركز التوتر العربي المعاصر، ليصبح أشبه ما يكون بقنبلة يمكن أن تنفجر في أي وقت مهددة السلامة الجسدية والنفسية للمواطن في العالم العربي كله، الذي يئن أصلًا تحت وطأة أحمال سياسية واقتصادية خطرة في كثير من الدول.
والمشكلة الكبرى أن هذا النوع من الأنشطة غير المشروعة لا يمكن القضاء عليه بسهولة، فحتى لو توقفت تلك النزاعات الآن فورًا، ووقف الجميع في مواجهة الكبتاغون بما في ذلك مروجوه من السياسيين ورجال صناعة القرار، فإنه يصعب إيقاف هذه الأنشطة؛ فقد نشأت بالفعل تجارة تقدر قيمتها بأكثر من 57 مليار دولار(16)، أصبح لها رجال أقوياء يديرونها مع آلاف من العاملين في هذه التجارة الخبيثة ومناطق سيطرة وسلطة وعلاقات متشابكة معمقة تحكمها مصالح مشتركة، وهي شبكات تصبح أقوى مع الزمن ولا يسهل تفكيكها، وستستغرق تصفية تلك الشبكات الكثير من الوقت والجهد.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.