الصهيونية الدينية على “تيك توك”.. هكذا شُرّعت الإبادة في غزّة | سياسة
بينما تتجول في وقت فراغك على موقع “يوتيوب”، قد يأتيك إعلانٌ عن فيلمٍ وثائقي ترشحه لك خوارزميات المنصة فيجذب انتباهك. يبدو من ملصق الفيلم، أن موضوعه الثراء، وأنه يحكي قصة نجاح أحد الأشخاص الذين هاجروا إلى “أرض الأحلام” الأميركية، وهو أمر يلمس الواقع الاقتصادي البائس لكثير من شباب اليوم.
تنقر على الفيلم وتبدأ مشاهدته، فيظهر أول مشهد -بصورة بانورامية- للمسجد الأقصى وقبته الذهبية وما يحيط به من بيوت وشوارع، ثم ينتقل بك الكادر إلى علم “إسرائيل” وحائط المبكى، يتبعه تصوير بطيء لصفحات من التوراة باللغة العبرية، ثم تتلوها لقطات سريعة لشواطئ دولة الاحتلال ونخيلها، حتى إذا شعرت بأنك أمام فيلم دعائي تقليدي لـ”إسرائيل”، وأوشك أملك أن يخيب فيما ظننته قصة نجاح ملهمة، سرعان ما تنتقل بك الكاميرا إلى صخب نيويورك وناطحات سحابها، وشارع “وول ستريت” المكتظ بالمارة والبنوك والشركات، وتمثال الحرية؛ الرمز المعروف للمدينة.
ولترضي فضولك، تستمر في مشاهدة الفيلم لتفهم الرابط بين المشاهد، فتدرك تباعًا أن الفيلم هو سيرة نجاح شخصية بالفعل، لكنها ليست شخصية بالكامل، فالوثائقي يصور سيرة حياة الحاخام اليهودي يارون روفين، ويحكي فيه تحوله من كونه مقربًا من بارونات رأس المال وأباطرة الاقتصاد والأموال، إلى يهودي متدين “تائب إلى الله”، ثم إلى حاخام يدرّس التوراة للطلاب والشباب اليهود.
إذن، فإن الفيلم أقرب إلى قصة نجاح معكوسة: من الثروة إلى الزهد، ومن الرفاه إلى التدين، ومن قمة الهرم الرأسمالي إلى الدراسة التوراتية. حصل الفيلم -حتى وقت كتابة هذا التقرير- على 2.2 مليون مشاهدة، لكن هذا لا يزال عددًا متواضعًا لا يكفي لدفع صاحب القصة، روفين، إلى الشهرة العالمية.
لقد ظل روفين أكثر من عشر سنوات ينشر محتواه لتدريس التوراة على قناته على اليوتيوب، التي تتراوح مشاهداتها بين بضع مئات وبضعة آلاف، إلا أن بوابته للشهرة العالمية لم تكن اليوتيوب، وإنما تيك توك.
وداعًا اليوتيوب.. مرحبًا تيك توك
في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر روفين درسه التوراتي التقليدي بعنوان: “رؤية توراتية حول قتل الأطفال في الحرب”، من خلال بث مباشر في صفحته على تيك توك، حيث جلس على كرسيه المكتبي، مرتديًا الكيباه اليهودية (قبّعة صغيرة توضع على الرأس)، ويظهر في الخلفية علم “إسرائيل” مُعلّقًا على الحائط، يجاوره بعض المعلقات باللغة العبرية.
وأمام هذه الخلفية المشبعة بالرؤية الدينية للصهيونية، يتحدث روفين عن صوابية العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي راح ضحيته أكثر من 36 ألف شهيد، منهم أكثر من 15 ألف طفل.
لكن الملفت في درس روفين، تبريره قتل الأطفال، فقد قال: “لا يوجد هناك رحمة [أي بأهل غزة]. قد تظن أنك رحيم بطفل ولكنك لا تكون رحيمًا بالطفل، وإنما تكون شريرًا للضحية النهائية التي سيكبر هذا الطفل ويقتلها، لأن الأيديولوجية التي سيكبر معها ذلك الطفل هي أسوأ من أيديولوجية والده، ومن هنا جاء سبب وجود آية في سفر التثنية في التوراة تقول:
«قواعد الحرب لا تسمح لأي شخص بالبقاء على قيد الحياة». لا رحمة. الآية تقول: «تمحو ذكر العماليق تمامًا من الوجود»، وهذا يشمل الرجال والنساء والأطفال”.
كان من سوء حظ روفين، أو من حسن حظه، أن وسائل الإعلام التقطت درسه وتداولته على نطاق واسع، ودُهش البعض من مستوى الصراحة المخيفة التي وصل إليها بعض حاخامات اليهود؛ مما دفعهم إلى التساؤل: هل هذا التوحش حالة فردية تخصّ هذا الحاخام أم أنه توجّه عامّ عند المتديّنين اليهود في “إسرائيل”؟
ولماذا اختار الحاخام تيك توك تحديدًا لبث درسه بثًّا مباشرًا عليه؟ أليس تيك توك “يدعم السردية الفلسطينية” كما تصرح به وسائل الإعلام منذ بداية العدوان على غزة؟ كيف يؤدي الدين اليهودي والحاخامات اليهود دورًا في “طوفان الأقصى” وفي ميدان تيك توك خاصة؟ وما الدور العربي المقابل للدين على ذات المنصة؟
“مُهرّج تيك توك”
في الحقيقة، لم تكن حالة روفين فريدة من نوعها، فهي امتداد للصهيونية الدينية (واسمها في وسائل الإعلام: اليمين المتطرف) في “إسرائيل”، التي بدأت الصعود منذ منتصف السبعينيات، لكنها صارت أكثر تداولًا وعلانيةً منذ أواخر عام 2022، حينما شارك حزب “القوة اليهودية” بزعامة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وحزب “الصهيونية الدينية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، في تشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، إلى أن أخذ صدى خطاب هؤلاء في الانتقال إلى خارج الأراضي المحتلة، عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
ومنذ بداية صعود نجم بن غفير، كان تيك توك ميدانًا أساسا اختاره لمخاطبة الشباب الإسرائيلي وتعبئتهم من خلاله، فأنشأ حسابه الخاص على المنصة في يوليو/تمّوز 2021. وفي العام التالي، أجرى بن غفير عملية إصلاح وتجديد لحسابه، وكلف ابنه بإدارة الحساب، فصار نشطًا للغاية، إلى درجة أن يائير لابيد، المعارض الإسرائيلي، أطلق على بن غفير وصف “مهرج تيك توك”.
يدرك بن غفير تمامًا مدى أهمية تيك توك في الوصول إلى صغار الشباب في “إسرائيل”، وقد استطاع خطاب الصهيونية الدينية، الذي يحرض على رفض إخلاء المستوطنات، وعلى ضم الضفة الغربية، ويبرّر العنف ضد “الأغيار” من غير اليهود؛ اكتساح ساحة تيك توك العبرية. حتى إن الناشط الإسرائيلي أوري مالرون قال إن “تيك توك هو أهم ساحة سياسية بالنسبة لنا”.
وأشار مالرون إلى أنه قبل انتخابات عام 2021، التي أتت ببن غفير وسموتريتش إلى السلطة، كان تيك توك قد غذى الناخبين الإسرائيليين الشباب بأيديولوجية المستوطنين المتشددين، في حين أن “المنظمات اليسارية القليلة التي تعمل على تيك توك تخاطب الشباب بطريقة مملة وعفا عليها الزمن، وبطريقة غير مناسبة للمنصة”، كما أشار إلى أنه “إذا استمر هذا الاتجاه، فإن نتائج الانتخابات ليست سوى البداية”.
ويبدو أن تخوف مالرون قد وقع بالفعل، ويبدو أن الخطاب “اليميني المتطرف” الذي يتبناه بن غفير وأشباهه قد أتى ثماره، إذ تصاعد الخطاب الديني العنيف المحرض على الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر ووصل إلى أرقام قياسية، وصار الشباب اليهودي على تيك توك يتداولون مقاطع الحاخامات المحرضين على إبادة أهل غزة جميعهم، بعدما كانت هذه الخطابات منبوذة أو مهمشة -إعلاميًّا على الأقل- في السياق الإسرائيلي.
لقد وجد الخطاب طريقه إلى الشباب الإسرائيلي غير المسيّس، أو العلماني، بسبب سأم الشباب من الخطاب الإسرائيلي التقليدي، الذي لم يجلب عليهم سوى ويلات 7 أكتوبر في نظرهم.
يؤكد شاؤول ماجد، الباحث في الدراسات اليهودية، هذا الأمر قائلًا: “هناك عدد متزايد من الإسرائيليين العلمانيين والمعتدلين الذين سئموا من عبارة: الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقد شنّت الحكومات اليمينية السابقة حملاتها على تعهدات ملطفة بـ”تقليص” الاحتلال بدلا من إنهائه.
في المقابل، فإن حزب القوة اليهودية بزعامة بن غفير يعد بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من خلال الضم الكامل للأرض ونقل السكان في الضفة الغربية إلى خارجها”.
هكذا، صار من الشائع أن يخرج تيكتوكر إسرائيلي يقول بعدم وجود ما يسمى فلسطين أصلًا أو يخرج آخر ينفي وجود أي احتلال للأراضي الفلسطينية مدعيًا أن الأرض كلها حقّ لليهود. وبالطبع، سيكون للحاخامات المؤمنين بالصهيونية الدينية دور محوريّ في هذه اللعبة السفاكة للدماء.
الحاخامات للجيش: “لا تُحيِ أي نفس”
ميزراخي ليس حاخامًا عاديًّا أو جدليًّا فحسب، وإنما هو أحد الحاخامات، كما يصفه كاتب إسرائيلي، الذين أحدثوا نقلة نوعية في وصول الحاخامات المتشددين إلى وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا في توجيههم نحو الجمهور اليهودي غير المتديّن.
بدوره، قام الحاخام مائير مزوز، مدير مدرسة “كرسي الرحمة” الدينية، بتوجيه خطاب موقّع نيابةً عن عشرات الحاخامات والمدارس الدينية، إلى نتنياهو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، يعطيه فيه ما يشبه الفتوى الشرعيّة، بأنه لا مانع من قصف “مجمع الشفاء الطبي” في غزة، قائلًا إنه “ليس هناك أيّ مانع في الشريعة اليهودية أو أيّ مانع أخلاقي أو قانوني من قصف العدوّ.. وإذا أسفر تحرك كهذا عن إراقة دماء الأبرياء، فسيقع اللوم على رأس القتلة المتوحشين [أي حماس] ومؤيديهم فقط”.
هذه الدعوة، تشابهها دعوة الحاخام إلياهو مالي، مدير مدرسة “شيرات موشيه” الدينية التوراتية في مدينة يافا، حيث قال في مؤتمر عام في مارس/آذار 2024، إنه “يجب اتباع مبدأ (لا تُحيِ أي نفس) و(إذا لم تقتلهم فسيقتلونك) التوراتي ضد سكان غزة”. وبحسب قوله فإن “مقاومي اليوم هم الأطفال الذين تركناهم أحياء في الحروب السابقة، والنساء هن اللاتي ينجبن هؤلاء المقاومين”. وهو لا يفرّق بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير، ودعوته الجنديّ الإسرائيلي إلى القتل لا تقتصر على من يرفع عليه السلاح، “ولكن أيضًا الجيل القادم، وكذلك المرأة التي تنجب الجيل القادم، لأنه في الحقيقة لا فرق بينهم”، كما يقول.
بعد كل تصريح أو بث مباشر على تيك توك لهؤلاء الحاخامات، يتداول الكثير من الشباب الإسرائيليين هذه المقاطع بكثرة، ربما مئات المرات، قبل أن تحذفها إدارة تيك توك من الموقع وتحظر الوصول إليها بسبب البلاغات عنها.
غير أن الموقف “الرسمي” للجيش الإسرائيلي لم يكن مختلفًا عن هذا التوجه، فقد صعد الحاخام إيال كريم، اليميني المتطرف، إلى أعلى المناصب الدينية في الجيش الإسرائيلي، وصار حاليًّا رئيس الحاخامية العسكرية، وهو السلاح الذي يوفر الخدمات الدينية لليهود في جيش الاحتلال.
ففي عام 2012، أفتى كريم بالسماح للجنود الإسرائيليين باغتصاب النساء غير اليهوديات، خاصة من ذوات المظهر الحسن، بل ووصف ذلك بأنه ضروري للحفاظ على لياقة الجنود ومعنوياتهم.
وبينما يقوم التيكتوكرز اليمينيون المتطرفون بهذه التعبئة الدينية ضد قطاع غزة، ينعكس صدى هذا الخطاب على بعض المؤثرين والمشاهير الإسرائيليين، ولو لم تكن لهم انتماءات دينية توراتية مدرسية.
هذا هو ما قام به الأديب الإسرائيلي عزار ياخين، ذو الخمسة والتسعين عامًا، حينما زار الجيش الإسرائيلي لرفع معنويات الجنود عقب أحداث 7 أكتوبر، إذ قال لهم: “انتصروا ودمروهم بكل قدر ممكن كي لا يبقى لهم ذكر، لا هم ولا أمهاتهم ولا أطفالهم ولا رضعهم، افعلوا بهم كل ذلك، هؤلاء الحيوانات”.
قُتل ياخين بعدها بأقل من شهر على يد المقاومة، لكن بقي صدى كلماته يتردد داخل التيار اليميني المتطرف في “إسرائيل”، وتداولت الحسابات العبرية على تيك توك عشرات المقاطع التي تمجّد سيرته وكلماته التي تتوافق والتوجه الديني اليميني المتطرف
الأمر نفسه، دعا إليه المغني الإسرائيلي إيال جولان، الذي قال للجنود الإسرائيليين: “امحوا غزة، لا تتركوا إنسانًا واحدًا هناك”.
هذه الخطابات، مع تكرارها وتنوعها وذيوعها بين الجمهور الإسرائيلي على تيك توك، ستساهم لا محالة، ليس فقط في زيادة سلوكيات وحشية لجنود الجيش الإسرائيلي اتجاه الأهالي في قطاع غزة ومختلف الأراضي الفلسطينية، بل ستدعم أيضًا كل سياسة إسرائيلية، على مستوى الحكومة والجيش، قائمة على إبادة الفلسطينيين، من بشر وشجر وحجر.
تقول الباحثة الفلسطينية منى اشتية، الباحثة في “معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط” والخبيرة في الحقوق الرقمية الفلسطينية، إن “العنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بالمجال الرقمي… فعندما تتسامح منصات التواصل الاجتماعي مع التحريض الإسرائيلي، يتصاعد العنف في العالم الحقيقي”.
يبقى السؤال كيف ظهرت نتائج هذه الخطابات الدينية اليهودية على تيك توك؟
غزّة على البث المباشر
لا يمكن رسم بيانات دقيقة لمدى تأثير هذا الخطاب في تيك توك، فالتطبيق لا يوفر بيانات خاصة بمنشورات الكراهية الصهيونية الذي قام بحذفها. وزيادة على ذلك حظَر الأدوات التي تمكن المحللين من تحليل الوسوم (الهاشتاغات) بسبب ازدياد الضغط الصهيوني على الشركة المالكة للتطبيق.
ولذا، فلا يمكننا تحليل عدد المرات التي استُخدمت فيها على المنصة، خطابات صهيونية دينية تدعو إلى إبادة غزة. لكن في المقابل، نرى على منصة أكس مثلًا (تويتر سابقًا)، أنه خلال الشهر الأول فقط من الطوفان، وردت دعوات إلى “تسوية” غزة أو “محوها” أو “تدميرها” حوالي 18 ألف مرة في منشورات صهيونية، وفقًا لما ذكرته مجموعة “FakeReporter” الإسرائيلية، التي تراقب خطاب الكراهية، وذلك مقارنة بذكر العبارات نفسها 16 مرة فقط في الـ45 يومًا السابقة للحرب.
إذن، تأثر جمهور الشباب الإسرائيلي بخطاب الصهيونية الدينية، وظهر ذلك جليًّا في سلوكيات المجندين في الجيش الإسرائيلي والمقاطع التي صوروا فيها أنفسهم وهم يقومون بأعمال عدائية، بشكل استفزازي وتحريضي، اتجاه الأهداف المدنية في قطاع غزة.
مثل الجندي الإسرائيلي الذي صوّر نفسه وهو يفجر مبنى سكني في غزة، ثمّ يقدّم ذلك كـ”هدية” لابنته ، وثان يصور نفسه وهو يسرق سجادًا من أحد منازل غزة. وجنديّ ثالث يصوّر نفسه وهو يعزف بآلة موسيقية مسروقة على ركام أحد المنازل المهدمة، ورابع يصور جنودًا يسرقون محتويات خزانة شخصية نفيسة، وآخر يصور جنديًّا وهو يخرب محتويات محل خاص في غزة.
ومقاطع أخرى تظهر جنودًا إسرائيليين يغنون نشيدهم الوطني في سيارة مع أسير فلسطيني معصوب العينين ومقيّد في الجزء الخلفي من السيارة، وأخرى لجنود يتباهون بالملابس الداخلية النسائية على الجدران، وغيرها من المقاطع الكثيرة التي تملأ منصّات التواصل الاجتماعي.
في المقابل، استخدمت دولة جنوب أفريقيا، خلال دعواها أمام “المحكمة الجنائية الدولية“، بعض هذه الفيديوهات التي صورها جنود إسرائيليون على تيك توك، لدعم مقولتها بأن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية بحق أهل قطاع غزة.
ومن ضمن هذه المقاطع التي عرضها ممثل جنوب أفريقيا أمام المحكمة، مقطع لجنود إسرائيليين صوروه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهم يغنون: “نحن ملتزمون بالميتزفة [الوصايا التوراتية] لمحو بذور العمالقة [العرب].. نحن نعرف شعارنا، لا يوجد مدنيون بريئون”. كما عرض مقطعًا آخر لجنود إسرائيليين نشروه على تيك توك في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهم يرددون: “نحن ننتقم، بعون الله، لكيبوتس ناحل عوز”، ويظهر في خلفية مقطع الفيديو تفجيرهم منازل مدنيين
ووفقًا لأوري جيفاتي، المتحدث باسم منظمة “كسر الصمت”، وهي منظمة للجنود الإسرائيليين السابقين والحاليين، تعمل على فضح المخالفات المزعومة في الجيش الإسرائيلي، فإنه لم يكن بإمكان الجنود أن يصوروا هذه المقاطع الاستفزازية واللاأخلاقية، التي تخالف ميثاق الجيش الإسرائيلي نفسه، لولا وجود غطاء سياسي وديني لذلك، وهو الأمر الذي وفره خطاب الصهيونية الدينية.
لم تقتصر سلوكيات العدوان الوحشية على الجنود الإسرائيليين فحسب، بل امتدت لتشمل المنظمات اليمينية المتطرفة التي استطاعت تجنيد واستقطاب مزيد من المؤيدين. ففي أحد المقاطع المصورة، يظهر اقتحام ثلاثة مستوطنين لأحد المنازل الفلسطينية، قبل أن يجلسوا على الأرائك في ساحة المنزل، وهم يلفّون سجائرهم ويدخّنونها، في مشهد ترهيب واضح للسكّان الفلسطينيين.
وفي مايو/أيار 2024، نشرت صحيفة لوموند تقريرًا ذكرت فيه أن مجموعة صغيرة من المستوطنين والمتطرفين حاولت التسلل إلى الأراضي الفلسطينية ودخول قطاع غزة بالقوة، لإظهار رغبتهم في إعادة استيطان القطاع، لكن الشرطة اعترضت المجموعة وفرقتها.
ووفقًا للصحيفة نفسها، فقد تكونت المجموعة من مستوطني الضفة الغربية والحركة الصهيونية الدينية، وخططت للمشاركة في دخول غزة عنوة، وللانضمام إلى مجموعة أخرى تعمل على منع شاحنات المساعدات الإنسانية من دخول القطاع.
وبحسب لوموند، فإن مستوطنًا ناشطًا وصفته بأنه يكاد يكون “نسخة مصغرة من وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير”، قال: “حلمي المطلق هو أن أعيش في غزة، لكن إذا لم تكن يهودية 100%، فسيكون ذلك بلا فائدة”. وقد وجدت أن هذا المستوطن، يستخدم تيك توك بانتظام، قبل أن تغلق المنصة حسابه، ويتوجه إلى أكس.
ولكن كيف تصرّف تيك توك إزاء هذا الخطاب المروع والسفاك للدماء؟
حذف محتوى الكراهية: هل ساند تيك توك فلسطين فعلًا؟
وقد قام المستثمر التقني الأميركي جيف موريس بتحليل للوسوم الداعمة لفلسطين على تيك توك، فوجد أنها تزيد على الوسوم المؤيدة لـ”إسرائيل” بـ15 ضعفًا. ولعل هذا بالتحديد، ما دفع رئيس وزراء “إسرائيل” الأسبق، نفتالي بينيت، إلى كتابة تغريدة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال فيها: “وضعنا الدولي غير جيّد، والرأي العالمي ليس في صالحنا الآن، على سبيل المثال فإن المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك يفوق نظيره الصهيوني على نفس التطبيق بـ15 ضعفًا”.
لذلك، ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ترددت أقاويل بأن منصّة تيك توك تدعم المحتوى الفلسطيني وتزيد من انتشاره عليها، وأنه في المقابل حجبت منصات مثل فيسبوك وإنستغرام المحتوى الفلسطيني عليها.
يمثل هذا الأمر تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة، بل تهديدًا للأمن القومي لديها، إذ إنه قبيل 7 أكتوبر بأيام، أجرى مركز “Pew” مسحًا داخل أميركا خلص فيه إلى أن 43% من مستخدمي تيك توك في أميركا يحصلون على الأخبار السياسية منه، مما يعني أنه من المتوقع أن تزداد النسبة بعد الطوفان إلى 50%، وهي بالطبع نسبة كارثية للأمن القومي الأميركي.
ومن دلالات ذلك، أن منصّة تيك توك سمحت لترند عجيب بالانتشار، وهو الخطاب الذي وجهه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة عام 2002 بعنوان “رسالة إلى أميركا”، إذ تداول ناشطون أميركيون هذه الرسالة، التي تشرح أسباب كراهية بن لادن وعدائه للأميركان دينيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. لم يسمع أحد من جيل الشباب بهذه الرسالة من قبل، لكن تداولها على تيك توك أظهر ردودًا صادمة من هذا الجيل، إذ اتفق معظم الناشطين على التطبيق مع محتوى الرسالة.
ورغم حذف تيك توك لهذا المحتوى لاحقًا بعد انتشاره، فإن المسؤولين الأميركيين نظروا إلى التطبيق على أنه ساهم في إيجاد تعاطف داخل أميركا نفسها مع أحد ألد أعدائها في القرن الواحد وعشرين؛ الأمر الذي تطلب تدخلًا عاجلًا لإنقاذ الموقف من الإدارة الأميركية، فتهديد تيك توك لم يعد مقتصرًا على ترويج السردية الفلسطينية فحسب، بل إنه، كما يصفه رئيس “إسرائيل” في مقابلة تلفزيونية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إسحاق هرتسوغ، صار “يغسل أدمغة” مستخدميه.
من وقتها، أخذت الدعوات إلى حظر التطبيق تتصاعد مرة أخرى داخل الأراضي الأميركية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، خرجت المرشحة الجمهورية السابقة للرئاسة الأميركية نيكي هايلي لتقول: “نحن بحاجة ماسة إلى حظر تيك توك إلى الأبد، دعوني أخبركم لماذا، كل شخص يشاهد تيك توك لمدة 30 دقيقة يوميًّا، يصبح أكثر معاداة للسامية وأكثر تأييدًا لحماس بنسبة 17%، نحن نعلم الآن أن 50% من الشباب بين 18 و25 عامًا، يعتقدون أن حماس لها ما يبرر فعلها [في 7 أكتوبر] ضد إسرائيل، وهذه مشكلة”.
وبعد سلسلة من المناقشات والمراجعات، أقر الكونغرس الأميركي في مارس/آذار الماضي، قانونًا يحظر تيك توك داخل الأراضي الأميركية. وقّع بايدن القانون، الذي تضمن أيضًا حزمة مساعدات أميركية بقيمة 97 مليار دولار موجهة إلى أوكرانيا وتايوان و”إسرائيل”، وأعطى مهلة للشركة المالكة للتطبيق لبيعه أو سيتعرض التطبيق للحظر.
بدورها، صرحت منصة تيك توك في أبريل/نيسان بأنها حذفت أكثر من 3.1 ملايين منشور عن فلسطين و”إسرائيل” منذ أكتوبر 2023، لانتهاكها معايير مجتمع تيك توك، وتضمنت هذه المنشورات المحتوى: الداعم لحماس، وخطاب الكراهية، والتطرف العنيف، والتضليل المعلوماتي.
لم يستطع الكثيرون فهم حقيقة أن تطبيق تيك توك لم يكن يدعم المحتوى الفلسطيني، ولكن الجيل الجديد من الشباب هم من يفعلون ذلك، وأن تيك توك مجرد منصة. والأمر نفسه على منصة إنستغرام، إذ إن هاشتاغ “#FreePalestine” ضم نحو 9.8 ملايين منشور، بينما هاشتاغ “#Standwthisrael” ضم نحو 346 ألف منشور فقط. هذا الفارق لا يعود، بالطبع، إلى دعم إنستغرام للمحتوى الفلسطيني، فشركة ميتا المالكة للتطبيق مشهور عنها قمع وحجب المحتوى الفلسطيني مقابل تمرير ودعم المحتوى الإسرائيلي، وإنما يعود إلى طبيعة أفكار ونشر الجيل الأصغر سنًّا عليه.
يدرك المسؤولون الإسرائيليون هذه المعضلة، ولذا ظهر جوناثان جرينبلات، رئيس جمعية “ADL”، أحد أكبر اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، في تسجيل مسرب نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو يقول إن “إسرائيل” لديها “مشكلة كبيرة كبيرة كبيرة في تيك توك”. كما صرح الممثل اليهودي ساشا بارون كوهين، بأن تيك توك “يخلق أكبر حركة معادية للسامية منذ النازيين”.
ولذا، فإن الكثير من الناشطين والمحللين يقولون إن الولايات المتحدة تريد حجب تيك توك، لا لأنه يضلل الشباب، وإنما لأنه يظهر الحقيقة، ولم يوقع بايدن قرار حظر التطبيق إلا بسبب ضغط اللوبيات الصهيونية على الإدارة الأميركية.
الدين والطوفان.. هل اجتمعا في حسابات العرب؟
بالنظر إلى حسابات 20 تيكتوكرًا مؤثرًا دينيًّا عربيًّا على تيك توك، تتنوع أعداد متابعي حساباتهم بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين، موزعين على دول عربية مثل مصر وعمان والجزائر والسعودية والسودان وسوريا، ويشكل الدين ركيزة أساسية في خطاباتهم، أو يوظفونه في معظم مقاطعهم لخدمة أغراض دعائية لحساباتهم، مع عدم انتمائهم لأي جهة إسلامية وعدم تأييدهم لأي نظام أو حكومة في أي دولة من الدول.
إن الملاحظة الأولى التي تجذب الانتباه فورًا، هي أن هؤلاء التيكتوكرز العرب المتديّنين، نادرًا ما تجد محتوى خاصًا بهم لدعم القضية الفلسطينية، ومن بين كل عشرين مقطعًا ربما تجد مقطعًا واحدًا يحتوي على حديث يخص القضية الفلسطينية، وبعض هؤلاء اختفى من حسابهم أي ذكر للقضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر.
وبينما تجد التيكتوكرز اليهود المتدينين على تيك توك مسيّسين بشدة، ويدعمون السردية الصهيونية الدينية للحرب بدون مواربة، وفي قلبها طرد الفلسطينيين من كل أراضيهم، فإن عينة المؤثّرين من الشباب العربي المتديّن يغلب عليها عدم التسيّس، وعدم تبني سردية المقاومة، والاكتفاء بسردية المظلومية، إن وُجدت.
إن المحتوى الديني لهؤلاء يكاد ينحصر في الأذكار والدعاء وتلاوة القرآن وإيراد الأحاديث النبوية، إضافة إلى الحديث عن بعض الأخلاقيات ومشاهد من السيرة النبوية ومواقف الصحابة.
وإن معظمهم يحرصون على تقديم نسخة لطيفة ومرحة من الدين، مجارية للموضة، فيصورون أنفسهم وهم في بيوتهم أو غرفهم الخاصة، ويقدمون محتواهم باسمي الأوجه، مرتبي الثياب، ويستخدم معظمهم فلاتر لتنقية وجوههم من الشوائب، كما يرقق بعضهم أصواتهم لإضفاء مسحة من “اللطف” على محتواهم الديني.
يواكب هؤلاء التيكتوكرز المزاجات الشبابية والترندات، كارتدائهم مثلًا قميصًا عليه شعار “أنمي الهجوم على العمالقة” (Attack on Titan)، أو التصوير على البحر وهو يرتدي سماعة “آي فون” في إحدى أذنيه، أو عبر استخدام مصطلحات مثل “التروما و”Move On” في خطابه الديني.
إن الصورة النهائية للدين الذي يرسمه هؤلاء هي صورة فردانية إلى حد كبير، نظرًا لتخفيفهم الدين من نزعته النضالية عبر تغييب أي حديث عن القضايا الكبرى، ولا سيما قضية فلسطين. فخطابهم الديني سيخرج غالبًا إنسانًا سمحًا لطيفًا طبيعيًّا في يومه وحياته، منكفئًا على ذاته ومتبنيًا لنمط فرداني للدين، لا يعبأ بما يحدث في فلسطين إلا عرضًا.
وفي مقابل تآكل الجانب الكفاحي في الخطاب الديني عند هؤلاء التيكتوكرز، وتغييب الحديث عن المشاريع والطموحات الكبرى، تتردد كلمات مفتاحية جديدة عندهم مثل: “الراحة النفسية”، و”السعادة الشخصية” عبر القرب من الله، و”المتعة في العيش” بالجمع بين الدين والدنيا.
لقد غير تيك توك معادلة التديّن عند الشباب، فلم يصبح الدين عند كثير منهم نقطة مرجعية بذاتها تُستقى منها القيم وصيغ الخطابات، وإنما جعل الدين جزءًا من عملية السعي للشهرة والانتشار على منصات التواصل، أي أن الدين صار جزءًا من المحتوى، وليس هو نفسه المحتوى.
السقف العالي والحضور الباهت
يعمل تيار الصهيونية الدينية على توظيف نصوص التوراة لتحريض الشباب اليهودي والتيكتوكرز الإسرائيليين على العرب والفلسطينيين، فتتداخل المقولات التحفيزية مع المواضيع الدينية، مع التحريض النفسي والتعبئة العسكرية، مع تصوير المقاطع اليومية (Vlogs) في كل هذه الحسابات، بحيث لا يكاد يخلو حساب اطلعنا عليه من هذه التشكيلة مجتمعة، فالعمل العسكري هو القلب، وسائر المواضيع خادمة له.
أما المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك، فيشمل متابعة الترندات، ومجرد استخدام الهاشتاغ لزيادة مشاهدات مقاطع الفيديو، رغم أنه قد لا يكون له علاقة بفلسطين البتة. كذلك يتضمن المحتوى المؤيد للإسكتشات التمثيلية، والغناء والموسيقى، والرقص، ومقاطع مساحيق التجميل (مثل إحدى الفتيات التي ترسم علم فلسطين على خديها)
خلاصة الأمر، أن القضية الصهيونية عند التيكتوكرز اليهود المتديّنين قضية مركزية، حاضرة دائمًا في خطاباتهم ومقاطعهم، وقلما يخرجون عنها أو يقدمون محتوى غير متعلق بها، وسقفهم عالٍ جدًّا في الحديث عنها والتحريض عليها. أما التيكتوكرز المتديّنين العرب الذين حلّلت المقالة خطابهم، فإن حضور القضية الفلسطينية باهت في حساباتهم، ويدور معظم محتواهم حول النصائح الفردية واللايف ستايل والفلوجز والحرص على الصلاة والأمانة وعدم الكذب أو الخيانة.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.