الجزيرة نت

الاستثناء الإسرائيلي وخطره على الديمقراطية وحقوق الإنسان | سياسة


ما تزال الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ نحو سبعة أشهر، تثير العديد من الأسئلة على مختلف المستويات: الأخلاقية والسياسية والعسكرية والقانونية؛ إذ إننا أمام حدث نموذجي؛ لجهة الأسباب والذرائع التي قام عليها، ولجهة الفاعلين المنخرطين فيه، ولجهة ضحاياه وتكلفته الإنسانية، ولجهة الأسلحة المستخدمة فيه، ولجهة ما أفرزه من ردود أفعال متنوّعة جدًّا على مختلف المستويات.

فهو حدثٌ انطوت فيه صورة نظام العالم الحديث ببُناه السياسيّة والعسكرية والقانونية والإنسانية والأخلاقية. ومن ثم شكّلت الحرب الجارية على غزة امتحانًا صعبًا للنظام الدولي برمته، كما أنها اختزلت مأساة أمة لنحو ثلاثة أرباع القرن، وكشفت عن موازين القوى وعن موقعنا في العالم الذي تَشَكل بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد أدى العنف الإسرائيلي الفائق والمنفلت إلى ظهور حركة احتجاج واسعة داخل العديد من الجامعات الأميركية وبعض الجامعات الأوروبية، ولكنها قوبلت بأعمال عنف وقمع واعتقال، مارسته السلطات في أنظمة ديمقراطية، الأمر الذي أثار أسئلة نقدية حول أربعة أمور رئيسة:

  • الأول: التشابه بين النظام الديمقراطي والنظام غير الديمقراطي، حين تتعارض مصالح النخب الحاكمة والمؤثرة في صنع القرار، مع النظام العام أو القانون أو المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
  • الثاني: موقع المعتقدات الدينية من سياسات الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية؛ فقد حضرت بعض نصوص الكتاب المقدس والعقائد الدينية المسيحية الصهيونية بقوة لدعم إسرائيل في حربها على غزة.
  • الثالث: الحدود التي يمكن لحرية التعبير أن تقف عندها، فلطالما قيل – غربيًّا – إن حرية التعبير حق أساسي لا يقيده شيء، ومن ثم اعتُبرت هذه الحرية منجزًا غربيًّا لا يُدانى، وأحدَ الأسس التي قام عليها النظام الديمقراطي. ونحن نذكر جيدًا كيف ضُحي – في سبيل حرية التعبير – بحُرمة الإسلام وأمته في أزمات الرسوم الكاريكاتيرية التي تكررت مرات.
  • الرابع: مصير الإرادة الشعبية التي هي أحد أسس النظام الديمقراطي، والتي قام على صيانتها أمران: آلية الانتخاب التي تترجم الإرادة الشعبية عن طريق اختيار المواطنين مَن ينوب عنهم، وآلية الاحتجاج السلمي والضغط الشعبي التي تصحح بها فئات من الشعب أي انحراف قد يطرأ على ممارسة من وكلوهم بإدارة شؤونهم ومصالحهم والتعبير عن إرادتهم.

وتقود هذه الأسئلة إلى سؤال آخر حول “عالمية” الديمقراطية وحقوق الإنسان في منظور الساسة الغربيين أنفسهم؛ لأن الاستثناء الإسرائيلي يكاد يضرب منظومة القيم الغربية والنظام الدولي ومؤسساته معًا؛ فإسرائيل التي ترفض الخضوع لأي معيار أو قانون من خارجها، تضرب بكل المؤسسات الدولية والقوانين والمبادئ الخُلقية، عُرضَ الحائط، لتظهر الاستثناءَ الوحيد الذي لا يجري عليه إلا قانونه هو فقط، ثم تجري بعد ذلك محاولة دؤوبة لإحاطة هذا الاستثناء الإسرائيلي بقداسة قانونية وأخلاقية؛ إذ يتم الدمج بين العداء للسامية (أي لليهود كعرق أو ديانة) وبين انتقاد سياسات إسرائيل، وهكذا يصبح العالم كله يدور في حلقة مفرغة؛ لأنه سيدافع حينها عن الشيء ونقيضه؛ لأن المطابقة بين انتقاد إسرائيل وتهمة العداء للسامية تعني استعمال القانون نفسه لنسف أسسه التي قام عليها وهي: المساواة والتعميم!.

ومن المثير للاهتمام أن أحداث العنف والقمع التي أثارت الأسئلة السابقة، والتي بدأت باعتقال عشرات من طلاب جامعة كولومبيا الأميركية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، كان وراءها جهات ومؤسسات خاضعة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، وقد كشفت بعض الصحف الغربية عن جوانب من ذلك.

فبالإضافة إلى التسريبات التي تمت عن مجموعة الواتساب بين عمدة نيويورك وبعض رجال الأعمال الصهاينة، ثمة موقع أطلق عام 2014 تحت اسم مشروع الكناري (Canary Mission)، كان له دور في اعتقال طلبة كولومبيا وبعض الأساتذة المنتقدين لإسرائيل. يتتبع هذا الموقع الأشخاص والمجموعات المنتقدة لإسرائيل والداعمة لفلسطين. يجمع بياناتهم ثم ينشرها ويحرض ضدهم ويكيل لهم التهم التي ترجع إلى مقولات ثلاث: العداء للسامية، والترويج لكراهية اليهود، والإرهاب أو دعم منظمات إرهابية. وهذه المقولات أو التهم تعيدنا مجددًا إلى الأسئلة المثارة سابقًا، ولكنها تضعنا – أيضًا – أمام مشكلتين مركزيتين:

  • الأولى: تحويل مقولة العداء للسامية إلى أداة قمع سياسي تقضي على حرية التعبير في النظام الديمقراطي الأميركي والأوروبي.
  • الثانية: أن مكونيّ المال والنفوذ السياسي اللذين خرج من رحمهما جماعات الضغط القائمة على دعم فكرة الاستثناء الإسرائيلي، يهددان النظام الديمقراطي وقيمه، والنظام الدولي أيضًا. فبفضل اللوبي الصهيوني صارت إسرائيل دولة مارقة لا تخضع لأي قانون وتستخدم -في الوقت نفسه- كل القوانين لخدمة الفكرة الصهيونية وقمع اليهود المعارضين لها.

يمثل مشروع الكناري مثالًا نموذجيًّا لتأكيد مقولة الاستثناء الإسرائيلي والأخطار المتنوعة التي تمثلها. فهو يعتمد على وسائل مشكلة من الناحيتين: القانونية والأخلاقية، تشمل جمع المعلومات الشخصية عن الأفراد المستهدفين ونشرها بشكل علني على الإنترنت، مما يؤدي إلى تشويه سمعتهم والتأثير على حياتهم المهنية والشخصية.

فقد نشر الموقع ما يسميه “القائمة السوداء” ضمّن فيها أسماء الطلاب والأساتذة المشاركين في الاحتجاجات ضد الحرب على غزة، واتهمهم بعدد من التهم، من بينها العداء للسامية ودعم منظمات إرهابية، وبث الكراهية ضد اليهود، فضلًا عن أنه جرى في بعض الأحيان الاتصال ببعض المحتجين والتضييق عليهم وتهديدهم، والمطالبة بفصل الطلاب والأساتذة، والدعوة إلى منع توظيفهم مستقبلًا، بل بلغ الأمر إلى إرسال ملفات الطلبة والأساتذة المحتجين إلى الجهات الأمنية في إسرائيل.

وهذا يعني أننا أمام حركة منظمة لخنق حرية التعبير داخل الجامعات، وإقصاء كل من له موقف سياسي نقدي تجاه إسرائيل من فضاء الجامعة وسوق العمل معًا، في الحاضر والمستقبل.

يسعى مشروع كناري – كما هو واضح- إلى تعميم فكرة الاستثناء الإسرائيلي وأن إسرائيل ليست مجرد مشروع سياسي أو دولة كسائر دول النظام الدولي الحالي، بل هي عقيدة دينية، ولذلك سعت إسرائيل – باستمرار – إلى تعريف نفسها بأنها “دولة يهودية”، لأن ذلك سيعني – وبشكل لن يقبل الجدل إن تمّ- أن أي نقد أو عداء لإسرائيل الدولة سيكون عداء لليهود كجماعة دينية وعرقية، ومن ثم العداء للسامية!

وقد جرى تجريم العداء للسامية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه جزءًا من مكافحة العنصرية والتمييز، وإذا ما تم الاعتراف بيهودية إسرائيل فسنكون أمام تقنين حالة الاستثناء الإسرائيلي وشرعنة الخروج على النظام الدولي وقوانينه، وعلى كل المبادئ الأخلاقية التي طالما تبجحت بها دول الغرب. فأي انتقاد لما تقوم به إسرائيل الدولة وحكوماتها المتعاقبة سيعتبر مهددًا لسلامة اليهود أو مؤيدي إسرائيل، وتحريضًا على الكراهية تجاه اليهود أو تشويهًا لسمعة اليهود أو إسرائيل أو مؤيديها، وقد كال مشروع كناري تلك التهم للمحتجين ضد الحرب على غزة!

وتنطوي فكرة الاستثناء الإسرائيلي -في الواقع- على تحديين رئيسين:

  • الأول: جماعات اليهود الناقدة للسياسة الإسرائيلية، والتي كان كثير منها جزءًا من حركة الاحتجاج الطلابي في الجامعات الأميركية، وهذا التحدي يكذّب دعوى التطابق بين إسرائيل كدولة، واليهود كجماعة دينية وعرقية، ومن ثم سيكذّب دعوى العداء للسامية.
  • الثاني: أن إسرائيل الدولة التي تقدم نفسها – باستمرار – على أنها دولة ديمقراطية، وتَمُور بالكثير من الحركية والنقد الداخلي للحكومات المتعاقبة من قبل أحزاب المعارضة فيها، من الممكن أيضًا أن ينسحب عليها مقولة العداء للسامية؛ إذا ما طابقنا بين انتقاد سياسات إسرائيل والعداء للسامية؛ لأن من سيمثل إسرائيل في تلك الحالة هو الحكومة، وسيصبح معارضوها معادين لإسرائيل الرسمية، ومن ثم سيكون على أصحاب دعوى “الاستثناء الإسرائيلي” صياغة استثناءات أخرى للاستثناء الإسرائيلي!

تقود مقولة الاستثناء الإسرائيلي إلى أخطار عديدة تمس الأفراد، ففي حالة مشروع كناري – وهو مثال نموذجي هنا – نحن أمام استباحة تامة لمحظورات أخلاقية وقانونية لأغراض سياسية، وبدعم من اللوبي الصهيوني. من أبرز تلك المحظورات:

  • أولًا: انتهاك خصوصية الأفراد من خلال نشر صورهم وعناوينهم وبياناتهم الأكاديمية والمهنية، الأمر الذي عرضهم – أو بعضهم على الأقل – لمخاطر كبيرة.
  • ثانيًا: التشهير؛ لأن مشروع كناري يكيل التهم لمنتقدي الحرب الإسرائيلية على غزة، ويعممها من دون أي سند قانوني، وهذا سيلحق الضرر بالمحتجين على الصعيدين: الشخصي والمهني، بل سيؤدي إلى نبذهم اجتماعيًّا وسياسيًّا من مجتمعاتهم أو مؤسساتهم الأكاديمية أو المهنية، مما يؤثر سلبًا على فرصهم المستقبلية. ومن شأن ذلك أن يقيد حرية التعبير وأن يقمع الأصوات المعارضة، وهذا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية التي تقوم عليها المجتمعات الحرة.

تشكل مقولة الاستثناء الإسرائيلي وتطبيقاتها على مختلف المستويات، بدءًا من النظام الدولي ومؤسساته، وانتهاء بمشروع كناري، تحديًا كبيرًا للنظام الدولي نفسه وللمبادئ الأخلاقية والقانونية المتعلقة بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading