الخديوي إسماعيل.. المؤسس الثاني لمصر الحديثة | الموسوعة
الخديوي إسماعيل خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، ولد عام 1830، وتولى العرش خلفا لعمه محمد سعيد باشا في الفترة ما بين 1863 و1879م. شهدت مصر خلال فترة حكمه نهضة عمرانية واقتصادية وعلمية حتى لقب بالمؤسس الثاني لمصر الحديثة، إلا أنه أغرق بلده في الديون لأن المشاريع التي أنشأها كانت بتمويل أوروبي. عزل من الحكم بمرسوم أصدره السلطان العثماني بضغط إنجليزي فرنسي، وعيّن محله ابنه الخديوي توفيق، توفي عام 1895.
المولد والنشأة
ولد إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 1830، والده هو إبراهيم باشا، الذي كان القائد الأعلى للجيوش المصرية قبل أن يتولى عرش مصر خلفا لوالده محمد علي باشا.
هو الثاني ضمن 3 إخوة أكبرهم الأمير أحمد رفعت وأصغرهم الأمير مصطفى فاضل.
أصيب في طفولته برمد صديدي عجز الأطباء بمصر عن مداواته، فأخذه والده إلى جانبه في دمشق حيث كان يستقر على أمل أن يساعد مناخها المعتدل على شفائه.
رغم تحسن حالته، ظلت جفونه تؤلمه فأُرسل إلى فيينا وكان عمره حينها 14 عاما ليعالج فيها على يد أخصائي شهير وفي الوقت نفسه ليتلقى تربية أوروبية.
لقي في فيينا رعاية من الأسرة الملكية النمساوية وصادق عددا من أمرائها، قضى فيها عامين تحسنت خلالهما صحته وفارق الألم جفونه، ثم سافر إلى فرنسا وزار كثيرا من الدول الأوروبية.
لم يتلق تربية تؤهله لتولي الملك لأن أخاه أحمد رفعت كان أكبر ذكور الأسرة وكان المؤهل لولاية العهد بعد أعمامه، لذلك بقي منشغلا برعاية مزارعه بعيدا عن قصر الحكم.
كانت له 14 زوجة ومحظية (المستولدات)، وله عدة أولاد وبنات: أكبرهم هو محمد توفيق (الخديوي توفيق فيما بعد) وحسن وحسين (السلطان حسين كامل فيما بعد) ومحمود مهدي وأحمد فؤاد (الملك فؤاد الأول لاحقا) وإبراهيم حلمي ورشيد وعلي جمال.
أما بناته فهن: زينب وجميلة وتوحيدة وأمينة ونعمت وفاطمة، وهي الأميرة التي تبرعت بأرض لإنشاء جامعة القاهرة وأنشأت كلية الآداب بالجامعة نفسها على نفقتها الخاصة.
الدراسة والتعليم
تلقى تعليمه في المدرسة الخصوصية التي أنشأها في القصر العيني محمد علي باشا لتربية الأمراء، وفيها تعلم على يد نخبة من الأساتذة المهرة مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية.
خلال إقامته في النمسا لتلقي العلاج، تعلم اللغة الفرنسية التي كانت لغة النخبة في ذلك الوقت.
وفي عام 1845 أمر جده محمد علي باشا بانتقاله إلى المدرسة المصرية في باريس، وهي مدرسة عسكرية أنشأها وأوفد إليها أبناءه الأميرين حليم وحسين وحفيديه الأمير أحمد رفعت والأمير إسماعيل، مع نخبة من شبان مصر الأذكياء لكي يتعلموا الفنون العسكرية. افتتحت المدرسة في سبتمبر/أيلول 1845 برعاية وزير الحربية الفرنسية حينذاك الماريشال سولت، وتولى إدارتها الكولونيل ركنور.
بلغ عدد الشبان المصريين فيها 85، لكنها لم تستمر أكثر من 3 سنوات، فعاد معظم الطلاب إلى مصر، وظل الباقون في باريس ليستكملوا دراساتهم في كليات أخرى، ومنهم الأمير إسماعيل، الذي التحق بكلية “سان سير” الحربية وبدأ الدراسة فيها في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1848.
المهام قبل تولي العرش
عاد إلى مصر بعد أن تولى والده إبراهيم باشا الحكم، غير أن المرض لم يمهل هذا الأخير كثيرا فمات وكان عمر الأمير إسماعيل 19 عاما.
تولى الحكم بعد والده عمه عباس باشا الأول، الذي كان على خلاف مع عدد من الأمراء، مما اضطره إلى مغادرة مصر والتوجه إلى الأستانة (إسطنبول) عاصمة الدولة العثمانية.
خلال استقراره فيها، أنعم عليه السلطان عبد المجيد بالباشوية وعينه عضوا في مجلس أحكام الدولة، ولم يعد إلى مصر إلا بعد مقتل عباس باشا في يوليو/تموز 1854 وتولي عمه محمد سعيد الحكم خلفا له.
عينه عمه رئيسا لمجلس الأحكام المصري الأعلى، وهو أكبر هيئة قضائية في البلاد حينها، وفي عام 1855 أوفده في مهمة سياسية لدى الإمبراطور نابليون الثالث، تتعلق بتوسيع نطاق استقلال مصر، كما قابل البابا بيو التاسع موفدا من قبل عمه.
قربته حادثة مأساوية من حكم مصر، ففي مايو/أيار 1858 أقام محمد سعيد باشا حفلة في الإسكندرية دعا إليها جميع الأمراء، فلبّى الدعوة ولي العهد أحمد رفعت باشا، في حين اعتذر إسماعيل باشا عن حضورها لإصابته بوعكة.
ولما انقضت الحفلة عاد الأمير إلى مصر بقطار خاص مع بعض الأمراء وحاشيته، فوقعت العربة التي كانت تقله في النيل عند كفر الزيات فغرق، وأصبح الأمير إسماعيل ولي العهد بعد أن بات أكبر الراشدين في البيت العلوي طبقا لنظام الوراثة الذي حددته الدولة العثمانية.
كان عمه يثق فيه وفي قدراته، لذلك عهد له عدة مرات بتدبير شؤون البلاد في غيابه، فجعله نائبا عنه أثناء غيابه عن مصر حينما زار سوريا عام 1859، والمرة الثانية حينما ذهب إلى الحجاز لزيارة المدينة المنورة في أوائل عام 1861.
وبعد عودته من هذه الرحلة، عيّنه سردارا عاما للجيش المصري (قائدا عاما)، وعهد إليه بإخماد ثورة بعض القبائل المتمردة على حدود السودان، وهو ما نجح فيه دون سفك قطرة دم.
تولي الحكم
تولى إسماعيل باشا عرش مصر يوم 18 يناير/كانون الثاني 1863 بعد وفاة عمه وكان عمره حوالي 33 عاما. وبعد توليه الحكم ببضعة أسابيع، زار السلطان عبد العزيز مصر فكان أول سلطان عثماني يزورها منذ عهد سليم الأول.
سعى إسماعيل باشا جاهدا للحصول على امتيازات تعزز حكمه، وهي المساعي التي نجحت بعد أن بذل في سبيلها الكثير من المال، ففي عام 1866 صدر مرسوم عثماني بجعل وراثة الحكم في أكبر أبناء والي مصر من الذكور وفي عقبه.
وفي عام 1867 منحه السلطان لقب “الخديوي” -وهو لفظ فارسي الأصل معناه الأمير العظيم- وكان أول من حمل هذا اللقب في الأسرة العلوية، كما حصل على عهد من الباب العالي باستقلاله بشؤون مصر الداخلية.
أعماله وإصلاحاته
أطلق إصلاحات كبيرة وحقّق نهضة علمية واقتصادية وعمرانية مهمة، وكان طموحه جعل مصر في مصاف الدول الأوروبية، ومن إنجازاته تحويل مجلس المشورة لمجلس شورى النواب، متيحا للمصريين إمكانية اختيار ممثليهم في المجلس.
كما حوّل الدواوين إلى نظارات (وزارات)، وشكّل أول نظارة تشاركه مسؤولية الحكم، وألغى المحاكم القنصلية واستبدل بها المحاكم المختلطة، وظهرت في عهده بعض الصحف مثل الأهرام والوطن.
اهتم بالمشروعات الزراعية، فعمل على زيادة مساحة الأرض الزراعية وحفر ترعتي الإبراهيمية والإسماعيلية، وأنشأ العديد من المصانع منها 19 مصنعا للسكر، وبنى 15 منارة لإنعاش التجارة.
كما أولى الخديوي إسماعيل اهتماما كبيرا بالتعليم وزاد ميزانية نظارة المعارف (وزارة التعليم)، وأمر بوضع قانون أساسي للتعليم، واستحدث مدارس عليا جديدة كانت الأولى من نوعها في الشرق، منها مدرسة الفنون والصناعات التي افتتحت عام 1867 ومدرسة الألسن والإدارة لتخريج المترجمين والمحامين، ومدرسة المحاسبة والمساحة لتخريج المحاسبين والمساحين ورؤساء الأعمال، ومدرسة الإيجيبتولوجيا (علم المصريات الذي يهتم بتاريخ مصر القديمة)، ثم مدرسة دار العلوم التي تخرج المدرسين والعلماء، ومدرسة فلاحة البساتين ومدرسة الرسم وغيرها من المدارس والمعاهد.
أنشأ قصورا فخمة مثل قصر عابدين وقصر رأس التين وقصر القبة، وأنشأ دار الأوبرا وكوبري قصر النيل، وأضاف 910 أميال من السكك الحديدية، وأصلح ميناء الإسكندرية.
افتتحت في عهده قناة السويس في حفل أسطوري باذخ يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1869، حضره ملوك وملكات وأمراء أوروبا وحوالي 4 آلاف ضيف تكلفت الدولة المصرية بنفقات سفرهم وإقامتهم، وبلغت تكاليف الحفل حوالي 1.4 مليون جنيه.
أقيم الحفل على ربوة مرتفعة تطل على القناة من الناحية الشرقية، حيث بنيت ثلاث خيمات شرقية بلمسات أوروبية، وألقيت خلاله كلمات من الخديوي والضيوف.
وفي صبيحة يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1869 كان الافتتاح الفعلي للقناة حيث عبرتها بواخر الملوك والأمراء.
الديون والتدخل الأجنبي
موّل الخديوي إسماعيل كل تلك المشاريع الضخمة والأعمال العامة من القروض التي حصل عليها من البنوك الأوروبية، ولما كثرت الديون الأوروبية وأوشكت موارد الضمان التي يمكن تقديمها عنها أن تنفد لجأ الى إصدار سندات على خزائن الحكومة بقيمة تقل كثيرا عن قيمتها الاسمية، واضطر إلى عرض أسهم الحكومة في قناة السويس للبيع، وكان عددها 176 ألف سهم، فاشترتها الحكومة الإنجليزية بثمن بخس يقل عن 4 ملايين جنيه، لكن ذلك لم يحل الأزمة المالية، بل أصبح واضحا عزم الدول الأوروبية التدخل في شؤون مصر بدعوى المحافظة على الأموال التي أقرضها رعاياها للحكومة المصرية.
مع تراكم الديون وضغط الأوروبيين للسداد، شعر الخديوي بأن استقلال بلاده بات مهددا، فطلب من بريطانيا إيفاد موظف مالي لدراسة حالة الحكومة المالية، وأرسلت إليه بعثة مكونة من 4 من موظفيها برئاسة “ستيفن كيف”، وقد كتب هذا الأخير في تقريره أن سوء الحالة المالية يرجع إلى فداحة الشروط التي عقدت بها القروض المتوالية.
في عام 1876، وصلت ديون مصر الخارجية إلى نحو 91 مليون جنيه، وبلغ حجم خدمتها السنوية (حجم الأقساط السنوية والفوائد) نحو 6 ملايين جنيه، مما يمثل نحو 80% من إجمالي إيرادات الدولة المصرية في ذلك الحين.
ولاسترضاء الدائنين، أصدر مرسوما في الثاني من مايو/أيار 1876 لإنشاء لجنة أطلق عليها “صندوق الدين” تتشكل من مندوبي الدول الأوروبية، ودورها إدارة شؤون الدين المصري وتدبير ما يجب لانتظام تسديده، ثم أصدر مرسوما آخر في الشهر نفسه بتوحيد جميع الديون المصرية وجعلها دينا واحدا بفائدة 7%، يسدد في 65 سنة.
كان تدخل لجنة صندوق الدين في الأمور الداخلية لمصر مثار مقاومة ورفض الخديوي إسماعيل، وبعد أن تبين للدول الأوروبية أن الخديوي يأبى تقليص صلاحياته ومنح هذه الدول الحق في تدبير الأمور المالية والإدارية للبلاد، تفاوضت فيما بينها وقررت عزله، فعرضت عليه أن يستقيل فلم يقبل، فاستعملت نفوذها لدى الباب العالي حتى استصدرت أمرا بعزله.
شخصية مثيرة للجدل
بينما يصف المؤرخون الخديوي إسماعيل بأنه المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد جده محمد علي باشا بالنظر للمشاريع القومية الكبرى التي أنجزها والتي جعلت مصر تسير في مسار الدول الأوروبية العظمى، يرى آخرون أنه أدخل البلاد في نفق الديون المظلم بسبب إسرافه في الإنفاق على مشاريع لا جدوى منها، مما أدى إلى فقدان البلاد استقلالها وتدخل الدول الأجنبية في شؤون البلاد المالية والسياسية.
كانت طموحات الخديوي إسماعيل كبيرة وامتدادا لأمنية جده محمد علي باشا في تحويل مصر إلى إمبراطورية حديثة ومستقلة عن الباب العالي، وهو ما لم يعجب القوى الأوروبية وأثار مخاوف الإمبراطورية العثمانية.
ويرى باحثون أن هذه الدوافع جعلت هؤلاء يتحالفون ضمن مؤامرة مشتركة لعزله، إذ تمسك الدائنون الأوروبيون بشروطهم القاسية للإسراع بالوفاء بالديون بطريقة مريبة، فلم يجد منفذا إلا الامتثال لمقترحاتهم وإنشاء صندوق الدين الذي جعل البلاد تحت رحمة القوى الأجنبية، ولم تنفع مقاومته المتأخرة في حماية استقلال البلاد، إذ أجبر في نهاية المطاف على التنازل عن عرشه.
العزل والوفاة
أصدر السلطان العثماني مرسوما بعزله يوم 26 يوليو/تموز 1879 وتعيين ابنه الخديوي توفيق محله. وغادر مصر في نهاية الشهر نفسه، وأبحر من الإسكندرية على متن سفينته المحروسة إلى نابولي الإيطالية، ثم انتقل للإقامة في إسطنبول، وتوفي بها في الثاني من مارس/آذار 1895.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.