أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (1) | ثقافة
وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، والذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.
بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الأولى من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، والسيدة تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.
25 أكتوبر/تشرين الأول 2023
كان يوما مستكملاً لغيره من الأيام. قصف نسمعه عن بعد، أو عن قرب في كل مكان. عندما تقترب شمس النهار من الرحيل، نردد ببؤس: جاء الليل وهمه، إذ كان القصف يشتد ليلا، فلا يكاد ينام صغير أو كبير، إلا ويقفز من فراشه مذعورا، لقد كنا كلنا نكره حلول الليل، وكان أولاد إخوتي الصغار ينكمشون في أحضان أمهاتهم، ليزداد شعورهم بالأمان.
كان المذياع ينقل أخبار المجازر المتتالية لعوائل كاملة، فنخشى أن نلقى المصير نفسه، كلما كنت أسمع عن مجزرة ما ويكون عدد الشهداء والجرحى بالعشرات، كنت أشتعل غضبا وحرقة. أين المسلمون من كل ما يجري في غزة؟ كيف تغمض لهم أجفان ودماء شعبنا تراق؟
عشرات العائلات غادرت الحي الذي يقطنه أهلي، وكنت أنا قد لجأت للعيش في بيت أهلي بعدما قام الاحتلال بتدمير برج زغبر في حي النصر، والذي توجد فيه شقتي، في أول أيام الحرب.
كان أول برج يدمّره الاحتلال، لم يتركوا أي فرصة للسكان لأخذ مقتنياتهم الهامة، خرج السكان سريعا يفرون بحياتهم وحياة أطفالهم، كنت أول الساكنين في البرج منذ فبراير/شباط 2002، وفيه أنجبت ابنتي الوحيدة نور، كم كان يحوي هذا البيت من الذكريات؟
كنت أمتلك مكتبة كبيرة تحوي مئات الكتب والمجلدات الهامة في شتى المجالات، فضلا عن المئات من قصص ومجلات الأطفال، التي كنت أحتفظ بها منذ طفولتي، وفيها أرشيف أعمالي الأصلية المخزنة في عدة “هاردات” على مدى ثلاثين عاما، وجوائز ودروع وشهادات تكريم محلية وعربية ودولية، كلها دفنت تحت ركام خمسة طوابق، تم تدميرها وتدمير شقاء أصحابها في ثانية واحدة.
كل يوم يمر، كانت تتناقص فيه فرص بقاء الأمن في بيت أهلي، قطع الاحتلال الكهرباء بشكل تام منذ بداية الحرب، وحال ذلك دون إيصال الماء إلى الخزانات على أسطح المنازل، مما يعني مأساة بيئية في كل بيت، حتى العربات التي كانت تزود البيوت بمياه الشرب المفلترة ما عادت تعمل، باعة الخضروات المتجولين ما عدنا نسمع أصواتهم في الطرقات.
والأطفال الذين كانوا يلعبون الكرة ويملؤون المكان ضجيجا بأصواتهم، تركوا الكرة ورحلوا مع عائلاتهم، قطط الشوارع الجائعة كانت تتجمع حول أكوام القمامة المتراكمة، تبحث عن الطعام.
كنت أسمع صوت قطة تموء طوال اليوم، تبيّن لي فيما بعد أنها كانت تبكي صغيرتها الميتة، بقيت تموء قربها لساعات طويلة، ثم تلاشى الصوت، ربما رأف أحد المارة بها فدفن صغيرتها، تذكرت قطتي وصغارها الثلاثة في بيتي الريفي المتواضع البناء في منطقة التوام شمالي القطاع، وتذكرت مزروعاتي ودجاجاتي العشر، كنت أضع الماء الوفير في كل زاوية قبل الحرب، في فترة الحر، حتى أكسب ثواب إسقاء العصافير والقطط الأخرى التي تزور المكان بين الفينة والأخرى.
تم تدمير هذا البيت أيضا بكل ما يحيطه من مشاريع سكنية حديثة، وتم تدمير أبراج نايف الثلاثين، التي أنشئت بتمويل وإشراف سعودي، هذه الأبراج أنشئت خصيصا لمن تم تدمير بيوتهم في حرب 2014، تم تدمير الأبراج على مراحل، ولعدة أيام، على شكل أحزمة نارية، كنت أسمع صداها وأنا أبعد عنها مسافة ثلاثة كيلومترات، كان صوت السيارات التي تقل جيراننا إلى خارج الحي منذ الصباح الباكر، تجعل خوفنا يتصاعد، فالعيش بغير جيران، وفي أجواء الحرب، أمر موحش جدا.
بقيت أمي مترددة في أمر الخروج من البيت، لأنها لا تخرج إلا بالكرسي المتحرك بعدما أجرت عملية الغضروف في ظهرها، بعد أذان العصر مباشرة، ارتج شمال القطاع بأسره إثر قصف الطيران الحربي مربعا سكنيا يمتد ما بين تقاطع شارع اليرموك مع منطقة الغفري، مرورا بشارع الجلاء، بقرابة عشرة صواريخ مدمرة متتابعة على شكل حزام ناري ضخم.
اعتقدنا حينها أن الطيران سيقصف الآن لا محالة المربع السكني الذي نقطنه، أصوات سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني لم تتوقف، يبدو أن مجزرة مروعة تمت في المكان المستهدف، صار قرار النزوح الآن حاسما، ودون تفكير خرجنا من البيت ومن تبقى في الحي، نكاد نطير هرولة، هائمين على وجوهنا، نحمل بعضا من أمتعتنا الخفيفة الهامة، متجهين صوب مشفى الشفاء.
أهم ما يحمله النازح في حقيبته مفتاح بيته والشهادات والهوية الشخصية الخاصة به وبأولاده، وما يحمله من مال أو ذهب زوجته، وما خفّ من الملابس، حتى لا تشكل ثقلا عليه، إن دعته الظروف للهروب السريع.
أما إن كان يخطط للبقاء في المكان الجديد، فإنه يحمل بعض الفرشات والمخدات والأغطية، كان شارع الجلاء من الشوارع الجميلة الواسعة، يبلغ عرضه قرابة 24 مترا. وعلى جانبيه البيوت والبنايات الكبيرة والمحلات التجارية المختلفة والصيدليات، كما يتوسطه سطر طويل من الأشجار الكبيرة، التي تصنع ظلاً وارفا، وبيئةً خضراء تسر الناظرين.
بعد 18 يوما من بداية الحرب، تعرضت كثير من البنايات على جانبي الشارع إلى القصف والتدمير، وتبعثرت حجارة البيوت وأثاثها المهشم في عرض الشارع، وتوشحت الأشجار الخضراء الواقفة والمتساقطة بشال كبير من الغبار الرمادي الشاحب، في حين تمددت الأعمدة وأسلاك الكهرباء المقطوعة كجثث هامدة في عرض الشارع.
واجهات المحلات المغلقة كانت منتفخة للخارج كأنها حبلى من هول القصف والوجع الذي أصابها، حتى البيوت في الشوارع الفرعية، التي تربط شارع الجلاء بشارع اليرموك، طالتها يد القصف المباغت، فهدمت الأسقف والجدران فوق رؤوس أصحابها، وزجاج الشبابيك تفتت على الأرض وبات كأكياس الأرز المبعثر، حبال الغسيل المعلقة على الشرفات كانت لا تزال تحوي ملابس أصحابها، كل ألوانها باتت أسود.
كان الإسفلت في بعض أجزائه مشققا، تملؤه الشروخ العميقة، وكأن المكان قد تعرض لزلزالٍ مدمر، أي همجية ينتهجها الجيش الذي يدعي التحضر والإنسانية، فيضرب بيوت الآمنين من النساء والأطفال في بهيم الليل أو في وضح النهار، ودون سابق إنذار، هذه الحرب البربرية أثبتت أن الطفل الفلسطيني هو القوة العسكرية التي يخشى الاحتلال تعاظمها، الضربة الكبيرة كانت في منطقة الغفري، التي تبعد قرابة نصف كيلومتر عن بيت أهلي، وهو مكان يجب أن نمر به طالما أردنا الوصول لمشفى الشفاء.
لم نجد أي سيارة تسعفنا لنهرب من أي قصف إضافي محتمل.
كل السيارات تفر بسرعة الصاروخ، تحمل على ظهرها فراشا وأمتعة، وفي بطنها يتكدس أفراد العائلات، وكأنه يوم الحشر، الكل يريد الفرار، ما إن اقتربنا من منطقة الغفري حتى اتضح هول ما أصاب هذا المربع السكني الضخم من دمار، ليشمل البيوت الممتدة بين شارعي الجلاء واليرموك، عشرات الشهداء والإصابات والمدفونين تحت ردم البيوت.
كيف تقوى سيارات الدفاع المدني المتواضعة، التي يستهدف الاحتلال طواقمها أيضا، على رفع كل هذا الركام، وإيجاد الضحايا على عمق ستة طوابق في بعض البنايات، كبناية التاج في شارع اليرموك، والتي انطبقت أسقف طوابقها كلها على بعضها، كأنه لم تكن جدران وأعمدة تفصل بينها، سيارتان مسرعتان قامتا بإيصال عائلتنا كاملة، بعدما سرنا طويلا وسط الخوف.
في الوقت نفسه، لم تتوقف الطائرات الحربية والزنانات تمخر عباب السماء، نافثة رائحة الموت في كل مكان.
وصلنا لمشفى الشفاء، وكانت أول مرة أدخلها بعد الحرب، النازحون يفترشون كل سنتيمتر فيها، عائلات كثيرة صنعت من الأغطية خياما تقيهم شمس النهار وبرد الليل وتستر عوراتهم، وخيام أخرى خاصة بالصحفيين ووكالات الأنباء، وآخرون كثر بلا خيام ولا أغطية يفترشون واجهات مباني المشفى، وفي ساحاتها الخارجية روائح عديدة تنتشر في المكان، فهنا باعة القهوة والمشروبات الساخنة الأخرى، وهناك من يطهو الأرز بمرقة ماجي ويبيعها للنازحين، وهناك من يقلي الفلافل والبطاطس والبزر والفستق، وهنا يجلس باعة المعلبات من السردين واللحوم والبقوليات، وهناك يجلس باعة الملابس الخاصة بالصغار والكبار من كلا الجنسين، وهنا يفترش الأرض باعة الأغطية الشتوية، وهناك باعة حاجيات الأطفال.
وبين كل هذه الأزقة تتراكم أكوام القمامة ذات الرائحة الكريهة، فالبلدية باتت شبه عاجزة عن القيام بعملها في ظل استمرار القصف وتهديد سلامة طواقمها، أما المساحة الأخرى الأكبر فقد اكتظت بالأكفان البيضاء الملطخة بالدماء، منهم من هو معروف صاحبها، وكثير منهم من هو مجهول الهوية،، آثرت أن أبتعد بناظري عنهم، لقد آلمني حجم الفقد، لقد آلمني صوت حسرات الأهالي ونحيب الآباء.
توجهت إلى الطابق الثالث في قسم الولادة القيصرية، حيث كانت أختي بصغارها تنتظرني، سعدت أنني سأجد أناسا كثيرين، يخفف ضجيج أصواتهم هول صوت القصف، ونمت طويلا بعدما كنت أفتقد النوم لليال كثيرةٍ سابقة، نمت وأنا أعتقد أنني سأمكث يومين أو ثلاثة، وتنتهي هذه الحرب القاسية.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.