"أتمنى أن يطردكم العرب".. شهادة كاتب يوناني عن زيارته لفلسطين
اشراق العالم 24 متابعات عالمية عاجلة:
نقدم لكم في اشراق العالم24 خبر “"أتمنى أن يطردكم العرب".. شهادة كاتب يوناني عن زيارته لفلسطين”
وفي عام 1927، صدرت الطبعة الأولى من كتابه “ترحال”، الذي تضمن ملاحظاته عن فلسطين، مصر، إيطاليا، وقبرص. نظرًا لحساسية ما كتبه عن فلسطين في تلك الفترة، تُرجم الكتاب إلى العربية عام 1989 على يد منية سمارة، ومحمد الظاهر، ونشرته مؤسسة خلدون في عمّان. يقع الكتاب في 85 صفحة من الحجم المتوسط، ويتناول الكتاب عدة عناوين أبرزها ما يلي:
نحو أرض الميعاد
افتتح كازانتزاكيس رحلته بتساؤل فلسفي عميق: “إلى أي مدى تطور الإنسان المعاصر بعد تسعة عشر قرنًا من السعي والإنجازات؟ وما الذي يدفعه لترك بيته والشروع في رحلة شاقة ومكلفة إلى الشرق، حيث يعيش العرب، فقط لأداء العبادة في معبد مسيحي ما زال معناه غامضًا بالنسبة إليه؟”.
ترافق هذا التساؤل مع شعور عميق ورؤية رومانسية تجاه الأرض التي كان على وشْك الوصول إليها. عبّر عن انبهاره بفلسطين التي وصفها بأنها أرض “توهج منها ذات يوم، ذلك النور الذي انبثق من بيت صغير، وضيع في الناصرة ليضيء، ويبعث الحياة، والنشاط في قلب البشر”.
عندما اقتربت السفينة من شواطئ فلسطين، وصف كازانتزاكيس المشهد بروح شاعرية حية: “ظهرت الأرض كشريط فوق البحر، ثم تجلت الجبال المنخفضة في يهودا، بلون رمادي تحول إلى أزرق شفاف. وأخيرًا غرقت في نور النهار الشديد. بدت حيفا مظلمة بجانب الرمال البيضاء، بينما ظهرت المدينة اليهودية الجديدة، تل أبيب، على يسارها”.
هذا الوصف لم يكن مجرد مشهد بصري؛ بل كان انعكاسًا لتوقعات كازانتزاكيس ورؤيته للأرض التي ارتبطت بالإيمان المسيحي، لكنه لم يُخفِ تفاؤله الذي يحمل بُعدًا رومانسيًا عن طبيعة هذه الأرض، وما يمكن أن تمثله للبشرية.
مشاهد من كنيسة القيامة
بدأت رحلة نيكوس كازانتزاكيس في القدس صباح السبت المقدس، حين وقف عند مدخل القبر المقدس، ليصف المشهد داخل كنيسة القيامة بحيوية تنقل القارئ إلى قلب الحدث: “كانت الكنيسة تطن كأنها خلية نحل عظيمة، حيث اجتمع المسيحيون العرب الغائمو العيون والمنفعلون، يرتدون الطرابيش والجلابيب الملونة، يصعدون إلى السطوح القرميدية.
المكان كان مكتظًا بالمؤمنين الذين قضوا ليلتهم هناك، يفترشون الأرض على حصر من القش والسجاجيد، منتظرين تلك اللحظة الحاسمة التي ينبعث فيها “النور الرباني” من القبر المقدس.
كانت أباريق المياه الرمادية، بزخارفها العربية البرتغالية، والمشروبات الروحية والشربات، وعصير الليمون، تنتقل من يد إلى أخرى، خلال هذا الجمع الذاهل الذي يخيم أمام الكنيسة.
كانت أباريق القهوة تغلي على المواقد المتنقلة تحت الأيقونات العظيمة، والأمهات يكشفن عن صدورهن، أمام هذه الجموع الغفيرة، ليقمن بإرضاع أطفالهن، وكانت رائحة العرق البشرية النتنة تملأ الجو. وكانت رائحة الشمع المحترق، والزيوت، ورائحة شعور النساء، كلها تصدر رائحة كرائحة المواشي، وتبعث على الغثيان”.
وثّق الكاتب التنافس بين الطوائف المسيحية حول السيطرة على الأماكن المقدسة. ذكر كيف كان أحد الرهبان الأرثوذكس يرمق الطوائف الأخرى بنظرات حقد، ويؤكد أن الأماكن المقدسة تخص الأرثوذكس وحدهم، مشيرًا إلى تسييج المناطق المتنازع عليها بالعوارض المعدنية، كي لا يُسمح لأي إنسان أن يدخلها.
وصف كازانتزاكيس لكنيسة القيامة يُعد شهادة حيّة على الروحانية والتناقضات التي تتجسد في هذا المكان المقدس. بين الإيمان العميق والتنافس الدنيوي، يقدم الكاتب صورة معقدة وعميقة عن واقع الأماكن المسيحية في القدس في تلك الفترة.
مشاهد الطقوس في كنيسة القيامة وجبل آثوس
في مشاهد تحمل طابعًا تأمليًا وواقعيًا، قدم الكاتب نيكوس كازانتزاكيس وصفًا لطقوس العبادة التي عاينها في كنيسة الانبعاث. في عيد الفِصح، أثناء جولته في الكنيسة، لاحظ المشهد الآتي: “كانت الكنيسة تتوهج بالأضواء، بينما ملأت زهور الليمون المبعثرة المسحوقة الجو برائحة حمضية نفاذة تمتزج بالنفَس البشري”. ورغم الأجواء الروحانية المحيطة، أقر الكاتب بشعور عميق بالاغتراب الداخلي: “أحسست، وبشكل مطلق، بعدم وجود أية إشارات لأي انبعاث داخلي”.
بعد تأمله في كنيسة القيامة، سافر كازانتزاكيس إلى جبل آثوس، المعروف بقداسته، حيث ارتسمت أمامه صورة للأديرة البيزنطية التي تميز المكان: “وظهرت الأديرة البيزنطية أمامي، مرتفعة فوق الأمواج، متألقة وباردة كالصخور التي تظهر فجأة من الماء، وتظل تقطر على شاطئ البحر”.
انتقل الكاتب بين الأديرة المختلفة، حتى تم تخصيص دير برودروموس له. وصف هذا الدير بتفاصيل دقيقة تُبرز عزلته وجلال طبيعته: “إنه معبد منعزل يطل على البحر، مقام على جرف مهجور. لا ماء فيه ولا أشجار، ويتصل بشاطئ البحر عبر ممر مشاة منحدر. بعد مسيرة ساعة كاملة كنت أقف على بابه”.
خُصص لكازانتزاكيس في الدير صومعتان، بالإضافة إلى أطلال مصلى مغطى بالجِص. وانكب في الأيام الأولى على التأمل والتخطيط لنمط حياة تقشفي: “لقد قضيت الأيام الأولى لي، وأنا منكب على عتبة الدير، أخطط لحياة الزهد والتقشف، متنقلًا بين التصورات، والحسابات المنطقية، والفروض الهندسية الحمقاء”.
زيارة جامع عمر
لم تتضمن رحلة كازانتزاكيس زيارة المسجد الأقصى أو قبة الصخرة، لكنه عندما اقترب من جامع عمر، كان قلبه مليئًا بالابتهاج، حيث يقول: “طفت حول مسجد عمر، وقلبي ينبض بابتهاج”. تجول كازانتزاكيس في الساحة المطلة على القدس القديمة، وسار بخطى واسعة وسريعة، وكأن الجامع قد أسر روحه بجماله: “طفت حول هذا المسجد المهيب الرائع لعدة ساعات”.
وصف كازانتزاكيس الأماكن اليهودية “المُتخيلة” في القدس بـ “البالوعة الدموية لإسرائيل” (ص 55)، في مقابل تقديمه وصفًا معماريًا فريدًا للجامع، مقارنًا إياه بنافورة منحوتة: “يسمو أمامي تحت أشعة الشمس، مثل نافورة منحوتة من الحجارة النادرة، ترقى إلى السماء، وتفور مياهها قليلًا في الهواء، ثم تدور على أعقابها متراجعة، وتعود ثانية إلى الأرض”، وعند دخوله المسجد، عبّر الكاتب عن انبهاره بالزخارف والنقوش العربية التي تتدلى كأنّها جزء من الطبيعة: “دلفت إلى الداخل، وأنا مفتون مسحور. كانت الأحرف العربية مجدولة كالأزهار، حروف تكرّس الحكم والمواعظ القرآنية، تلتف حول الأعمدة، كأشجار العنب المتسلقة، ثم تزهر ثانية وهي تحيط بالقبة”.
وأشار إلى الأجواء الروحية العميقة داخل المسجد، حيث قال: “لقد كان مسجد عمر ينبض بالإيمان، والروائح الزكية”.
بكاء العبريين
أثناء جولته في القدس، نقل الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس وصفًا دقيقًا ومليئًا بالمشاعر لمشاهداته عن اليهود عند الحائط الغربي، المعروف أيضًا باسم حائط البراق، مبرزًا التناقض بين ثقافات المدينة وسلوك سكانها.
بدأ كازانتزاكيس بمقارنة بين ملامح اليهود والمسلمين الذين صادفهم في شوارع القدس. حيث رأى في نظرات اليهود التوتر والتهكم والقلق، مصورًا ذلك بقوله: “كان وميض عيون العبريين يومئ بالتهكم، والقلق، والتشهي، والحسد”.
في المقابل، وصف المسلمين بالهدوء والإيمان العميق، قائلًا: “أما المسلمون فقد كانوا هادئين، مؤمنين بعمق وقناعة برعاية الله، وهم يرمقونك بنظرات لا مبالية محايدة، وأنت تمر بالقرب منهم”.
وعندما وصل الكاتب إلى الحائط الغربي، الذي أطلق عليه خطأً “حائط معبد سليمان”، وصفه بأنه:”حائط عادي جدًا، ذو حجارة ضخمة مرصوفة فوق بعضها بعضًا دون حشوات إسمنتية بينها. الحجارة العالية مغطاة بالطحالب، التي تتدلى على الحجارة الواقعة أسفل منها”. وأشار إلى الأثر البشري الملموس على الحجارة “التي تقع في متناول أيدي الناس، والتي تصل إليها أيديهم، فقد نظفت نتيجة للمسات، وقبلات، وعناق اليهود”.
رصد كازانتزاكيس تفاصيل دقيقة عن الطقوس التي يؤديها اليهود عند الحائط، بالقول: “حوالي خمسين متعبدًا، كانوا يحملون العهد القديم في أيديهم، ويستندون إلى الجدار، وهم ينوحون ويعولون”. كما أشار إلى الفصل بين الرجال والنساء أثناء العبادة: “أما النسوة فقد كن يقفن في زاوية في الجهة اليسرى”.
تأملات في فلسطين
في وصفه لفلسطين، يقدم الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس صورة تجمع بين جمال الطبيعة الصارخ، والواقع القاسي، والتطلعات الدينية والسياسية. مزج في سرده بين ملاحظاته عن التضاريس والمناظر الطبيعية، وبين انعكاساته الفلسفية على العلاقة بين الإنسان والأرض.
يبدأ كازانتزاكيس بوصف مشاهداته في صحراء يهودا الممتدة من القدس إلى نهر الأردن والبحر الميت، التي اتسمت بالخشونة والقسوة: “لم أرَ زهرة واحدة تنمو، ولا قطرة ماء تتصاعد من تلك الأرض الجافة”.
ويصف الجبال المحيطة بأنها: “موحشة صارمة، وصعبة المنال، كانت نموذجًا رائعًا للفنان الذي يعشق الجمال المتقشف التراجيدي”. وتُظهر كلماته تقديرًا لجمال الطبيعة القاسي الذي يلهم الأنبياء والمبدعين، لكنه يقر بأن هذا المشهد الجاف: “لا يحتمل أبدًا للناس البسطاء العاديين، الذين يريدون أن يبنوا بيوتًا، ويزرعوا أشجارًا، وينجبوا أطفالًا”.
على النقيض من قساوة الصحراء، انتقل كازانتزاكيس إلى وصف الواحات والمدن التي تنبض بالحياة، أريحا، “ترى أريحا تبتسم لك، كواحة معزولة، وتجد نفسك أمام بساتين الرمان المزهرة، وأشجار الموز، والتين، والتوت… محاطة بسياج من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة.فترتاح عيناك، ويشعر جسمك بالراحة والتجدد”.
وحيفا، “نفس المنظر البهيج يقابلك في حيفا، فترى بساتين الرمان المزهرة والمتجددة، وبساتين أشجار البرتقال والليمون”. والخليل، “في الجنوب، في مدينة الخليل، تحس بألفة وطمأنينة الأرض، وهي تستقبل محراث الإنسان”. أما السامرة والجليل، “تبدو الجبال أكثر ودًا وألفة، حيث ترى الطيور، والمياه، والأشجار، تعطي للطبيعة أنسها وألفتها”، ولكنّه يلفت إلى أن أمراض الحمى كانت تقتل الناس في تلك المناطق.
نقل كازانتزاكيس حديثًا لحاخام يهودي، قدم فيه فلسفة تحرير الأرض وربطها بمهمة الإنسان: “كل إنسان يحمل على عاتقه مهمة حقيقية تتعلق بالأشياء التي يجب عليه أن يحررها: عليه أن يحرر حيواناته، أرضه، أدوات تجارته، جسده، وعقله. إن عليه واجب تحرير كل هذه الأشياء. لكن كيف؟ عن طريق استعمالها، وتهذيبها، وتطويرها” (ص 78). الحاخام يرى أن حرية الشعب اليهودي تكمن في امتلاكه فلسطين: “إذا أرادت أن تتحرر، فيجب أن يمتلك الشعب اليهودي فلسطين”.
نبوءة كازانتزاكيس: رؤية استشرافية للصراع في فلسطين
في حوار عميق مع فتاة يهودية تُدعى جوديت، قدّم الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس رؤيته المستقبلية حول مشروع الصهيونية في فلسطين، منبّهًا إلى التحديات والمآسي التي قد تنجم عن هذا المشروع. جاءت كلماته محملة بنبرة فلسفية، تحمل في طياتها نقدًا للمشروع الصهيوني، وتحذيرًا من نتائجه الوخيمة.
صرّح كازانتزاكيس بوضوح أن الصهيونية “منافية ومناقضة للمصالح العليا للجنس اليهودي”. يرى في الحركة الصهيونية قناعًا يخدع اليهود إلى ما لا نهاية، ووسيلة لتضليلهم عن حقيقتهم ومصيرهم.
وقد أشار إلى نقطة مركزية في نقده للصهيونية إذ أكد للفتاة جوديت: “لن تجدوا السعادة، والأمن هنا في فلسطين”. بالنسبة له، فإن السعي لتحقيق وطن قومي لليهود في فلسطين يتناقض مع الواقع الجيوسياسي، خاصة مع وجود: “جموع من العرب السمر الأشداء المتحمسين”. استند كازانتزاكيس إلى عامل العدد لاستبعاد إمكانية نجاح المشروع الصهيوني: “كيف يستطيع خمسة عشر مليونًا من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟”.
اختتم كازانتزاكيس حديثه بتنبؤ يحمل نبرة حادة وصريحة: “آمل- لأنني أحب اليهود – أن يتمكن العرب، عاجلًا أم آجلًا من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”.
في هذا التصريح، عبّر عن قناعته بأن مشروع الصهيونية ليس فقط غير قابل للتحقق، بل يحمل بذور صراعات ستجر الكوارث على اليهود أنفسهم قبل غيرهم.
كتب كازانتزاكيس هذه الرؤية قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بعقود، وقبل أن يتبلور الصراع العربي- الإسرائيلي بالصورة التي نعرفها اليوم. لذلك، يمكن اعتبار كلماته نبوءة استشرافية استندت إلى قراءة دقيقة للصراع بين المشروع الصهيوني وواقع فلسطين.
يُعد كتاب “ترحال” شهادة ذات أهمية تاريخية، كتبها أحد أبرز مفكري القرن العشرين. فيه أدان كازانتزاكيس الصهيونية من منظور فلسفي وإنساني، قبل أن يُدرك العالم حجم الكوارث التي ستنتج عن هذا المشروع.
الجدير بالذكر أن خبر “"أتمنى أن يطردكم العرب".. شهادة كاتب يوناني عن زيارته لفلسطين” تم نقله واقتباسه والتعديل عليه من قبل فريق اشراق العالم 24 والمصدر الأصلي هو المعني بما ورد في الخبر.
اشترك في نشرة اشراق العالم24 الإخبارية
الخبر لحظة بلحظة
اشرق مع العالم
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.