عاجل الآن

إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الشرق والغرب

اشراق العالم 24 متابعات عالمية عاجلة:

نقدم لكم في اشراق العالم24 خبر “إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الشرق والغرب”

أكثر من قرن مرّ على انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما زال الإرث العثماني يحتاج لإعادة نظر جديدة تناسب عصرنا المختلف كثيرا عن عوالم العثمانيين الذين تركوا بدورهم دروسا ملهمة يمكن أن تفيد واقعنا ومستقبلنا خاصة في مجتمعاتنا “التعددية” المعاصرة.

تحاول المؤرخة والأكاديمية والمستعربة البريطانية ديانا دارك (1956) المختصة بتاريخ الشرق الأوسط والثقافات الإسلامية مناقشة هذه الدروس في كتابها الجديد “العثمانيون: إرث ثقافي”، وهي المعروفة بكتاباتها التي تستكشف التأثير الكبير للعمارة الإسلامية على الطراز القوطي في أوروبا والتاريخ السوري الحديث والتفاعل الحضاري المتبادل بين الإسلام وأوروبا.

وترى دارك أن هذه الإمبراطورية التي دامت 6 قرون وشملت 3 قارات -أوروبا وآسيا وأفريقيا- تمثل بوتقة جمعت شعوبا متنوعة. وكأي إمبراطورية كبرى، كان لها نصيبها من الإنجازات والمآسي، وهو ما يجعل تقييمها موضوعا مركبا مشحونا بالتناقضات.

ولفهم إرث العثمانيين فهما دقيقا، لا بد من وضعه في السياق العالمي، وليس ذلك بالأمر السهل، لا سيما أن تركيا الحديثة، الوريثة للإمبراطورية العثمانية، تتبنى موقفا متأرجحا بين الحب والكره، التواصل والقطيعة، تجاه ماضيها العثماني، كما تقول المؤلفة التي اشترت في 2005 منزل فناء يعود للقرن الـ17 في دمشق وكتبت عنه كتابها “منزلي في دمشق: رؤية من الداخل لأزمة سوريا”.

لكن من الخطأ إسقاط مصطلحاتنا المعاصرة على أحداث الماضي؛ فتعبيرات مثل “النير التركي” أو “التعددية الثقافية” تحمل دلالات معاصرة لا تساعدنا في فهم سياق العثمانيين التاريخي؛ فالتعبير الأول ارتبط بصعود الحركة القومية في القرن التاسع عشر بينما يحمل الثاني معاني مستمدة من مفاهيم القرن الحادي والعشرين.

ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، يأتي وعينا وتصورنا محملا أو مشوها بتحيزات المنتصرين، وهنا تلمح المؤلفة لحلفاء الحربين العالميتين، وترى أن هذا النص لا يسعى لا لتبرئة العثمانيين ولا لإدانتهم، بل يرصد كيف اختفى ذكرهم في السرديات التاريخية للعديد من الشعوب.

على سبيل المثال، في منطقة البلقان التي عرفت حقب تعايش عثمانية عديدة نادرا ما تذكر كلمة “عثماني” في الكتب التعليمية، وإذا وردت تحال إلى مصطلح “الهيمنة التركية”، مما يعزز انطباع القهر والاستبداد،ن حتى إن أنظمة التعليم في تلك الدول تستمر في تعزيز هذه الرواية لتغذية هويات قومية قائمة على اللغة والدين، مما يتطلب في بعض الأحيان رفض كل ما هو عثماني.

تعقيد سياسي

وفي العالم العربي، تقول المؤلفة إن النظرة إلى الحقبة العثمانية اتسمت بتعقيد أكبر. فمع أن اللغة التركية العثمانية كانت لغة الإدارة الرسمية حتى أوائل القرن العشرين، إلا أن اللغة العربية استمرت في أداء دورها كلغة رسمية وأدبية في العديد من المناطق خاصة أن العثمانية كتبت بأبجدية عربية طوال “الزمن العثماني”.

وفي شمال أفريقيا، كان التأثير العثماني أقل وضوحا، لكن مشاعر الولاء لهم ظهرت في لحظات فارقة مثل الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، عندما كان السكان المحليون يتطلعون إلى عودة السفن العثمانية.

أما في المشرق، فقد تأرجحت الآراء حول العثمانيين بين القبول والرفض، تبعا للتغيرات السياسية.

ففي سوريا، على سبيل المثال، كانت النظرة إلى الحقبة العثمانية إيجابية عندما كانت العلاقات السياسية ودية، لكنها انقلبت إلى عداء بعد خلافهما في عام 2011، حيث تغيرت مناهج التاريخ المدرسي لتعبر عن “الاحتلال العثماني” بدلا من “العصر العثماني” (هل يتوقع أن تتغير مجددا بعد سقوط الأسد؟).

خريطة الإمبراطورية العثمانية بالقرن السادس عشر (غيتي)

وبنظرة جغرافية إلى زمن الإمبراطوريات الكبرى التي أفل عصرها، يمكن ملاحظة أن العثمانيين حكموا مساحة أوسع من البيزنطيين، ولفترة أطول من الرومان، وكانوا في كثير من الجوانب امتدادا للإمبراطورية البيزنطية التي ورثت بدورها إرث روما.

جميع هذه الإمبراطوريات اعتمدت على مؤسسات طويلة الأمد لإدارة مجتمعات متعددة الأعراق والأديان، وهو ما يختلف جذريا عن نموذج الدولة القومية الحديثة. فالتراث العثماني لم يحظ بالاهتمام الذي حظي به الرومان أو البيزنطيون، ومع ذلك يلاحظ هنا أن الكاتبة لم تقارن مع السابقين على العثمانيين من الإمبراطوريات الإسلامية لا سيما العباسية والمملوكية وإنما عقدت المقارنة مع الإمبراطوريات الأوروبية فقط.

تقول المؤلفة إن المؤرخين الأوروبيين نادرا ما تناولوا الإرث الثقافي العثماني بالشمول نفسه، وغالبا ما يتم تجاهله أو التقليل من قيمته، وتفاقمت هذه الفجوة بسبب ميل الأكاديميين إلى التركيز على فترات أو مناطق محددة، مما أدى إلى تجزئة المعرفة. فعلى سبيل المثال، يركز البعض على الولايات والإيالات العربية، وآخرون على البلقان، بينما يتخصص البعض في اللغة التركية فقط أو الدراسات البيزنطية.

العمارة والأدب والفنون

ترى الكاتبة أن هدف كتابها هو تقديم نظرة شاملة للقارئ العام عن العثمانيين وتأثيرهم العميق في التاريخ، متنقلة بين مجالات متعددة بينها التجارة، والمجتمع، والدين، والعلوم، والموسيقى، واللغة، والأدب، وفنون الطهو، وأسلوب الحياة، مصحوبا برسوم توضيحية جمالية تعمق الفهم وتوسع الأفق وتضفي على الكتاب مسحة فنية خاصة، وتقول المؤلفة “هذا السرد ليس لإصدار الأحكام، بل لفهم أعمق لإرث ثقافي ما زال يتردد صداه في حاضرنا”.

وعن الأصوات الثقافية العثمانية، يقدم الكتاب لمحة عن الأدب العثماني المكتوب بمزيج من التركية والعربية والفارسية، وكيف شكلت روافده المتنوعة ثراء كبيرا انعكس على بعض السلاطين الشعراء مثل سليمان القانوني وغزلياته لزوجته روكسلانا.

ولا تغفل الصورة التي ترسمها دارك عن الحياة العثمانية الموسيقى العثمانية التي عزفت في القصور والبيوتات والتكايا الصوفية، وتتأمل الأنغام والإيقاعات ونظام المقامات والارتجال الموسيقي.

ويسلط الكتاب الضوء على بعض الابتكارات العلمية المهمة، ومنها مرصد العالم الفلكي تقي الدين الشامي (المولود في دمشق 1526) الذي بنى مرصدًا في إسطنبول في القرن السادس عشر، كما يتناول الكتاب التطورات في مجالات علمية مثل الطب والهندسة.

روح تجارية متقدة

يستعرض الكتاب النظام الاقتصادي الواسع المبني على شبكة من الخانات وهي محطات تجارية وفرت المأوى والأمان للتجار المسافرين، وشكلت مراكز تبادل ثقافي وتجاري واستخدمت أيضا لتمويل المشاريع الخيرية والتعليمية. وارتبط النظام الاقتصادي العثماني وشبكة الخانات بنظام الأوقاف التي شملت بناء المدارس والمستشفيات والمساجد التي خدمت المجتمع بأسره، بغض النظر عن الدين والعرق، كما تقول المؤلفة.

ديانا دراك مؤلفة "السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا"
ديانا دارك مؤلفة “السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا” (الجزيرة)

وتتوقف مؤلفة “السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا” مليا عند العمارة العثمانية بمزيجها المؤلف من تأثيرات بيزنطية وفارسية وإسلامية متداخلة، لا سيما أعمال المعماري الشهير -الأرمني الأصل- سنان الذي صمم روائع عمارة عكست رؤية العثمانيين لخدمة المجتمع ثقافيا واجتماعيا ولم تكن مجرد أماكن للعبادة.

استكشاف مشحون بالمفاجآت

يرى الكتاب أن استكشاف الإرث العثماني كان أشبه بلغز معقد، بقدر ما كان مشحونا بالمفاجآت. فمثل كثيرين في الغرب، لم تكن الكاتبة على دراية بتلك الصبغة “الأوروبية” التي صبغت الإمبراطورية العثمانية بل دهشت حين اكتشفت أنه عند فتح القسطنطينية عام 1453 لم يقتصر الأمر على جيش من المسلمين المنطلقين من سهول آسيا، بل قاد الحملة جيش مختلط من المسلمين والمسيحيين كانوا يعيشون أصلا في قلب البر الأوروبي. وطوال أكثر من قرن، شكلت الأراضي الأوروبية ربع الإمبراطورية العثمانية، في حين ظل وعي أوروبا آنذاك أسير حدود ذهنية متخيلة لا يشاركها العثمانيون.

حتى في حصار فيينا الثاني عام 1683، قاتل عشرات الآلاف من المسيحيين المجريين إلى جانب آلاف من اليونانيين والأرمن والبروتستانت الساخرين من هيمنة آل هابسبورغ. وكان التعاون والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، رغم الحروب الدعائية، حقيقة ثابتة في ظل الدولة العثمانية، حيث امتزجت الثقافات وتداخلت المصالح، كما تقول المؤلفة.

المرأة العثمانية احتلت موقعا فريدا في ذلك التاريخ، فقد كانت تمتلك حقوقا أكثر مقارنة بنظيراتها في أوروبا
المرأة العثمانية احتلت موقعا فريدا في ذلك التاريخ فقد كانت تمتلك حقوقا أكثر مقارنة بنظيراتها في أوروبا (فايرفلاي-الجزيرة)

وهذا الإرث السابق على العثمانيين يمكن أيضا مناقشته بالنظر إلى تاريخ تعايش اليونانيين المسيحيين والأتراك المسلمين جنبا إلى جنب طوال قرون تحت حكم السلاجقة، أسلاف العثمانيين. ففي أوج السلطنة السلجوقية في القرن الثالث عشر، فاقت أعداد اليونانيين المسيحيين الأتراك المسلمين بـ10 أضعاف، كما أشار وليام روبروك المستكشف والرحالة الفرنسي (الفلمنكي) المعاصر.

ومن المثير أن الكاتبة تعقد هنا مقارنة بين حدثين تاريخيين مفصليين هما: معركة هاستينغز التي منحت نصرا حاسما للنورمان في حملتهم لغزو إنجلترا عام 1066، ومعركة ملاذ كرد عام 1071 التي كسرت ظهر الإمبراطورية البيزنطية أمام السلطان ألب أرسلان.

ومن المفاجآت، كما تقول المؤلفة أيضا، أن الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيين كان شائعا، بل حتى العائلات الملكية كانت تربطها أواصر قرابة؛ فعندما فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية اعتبر أنه وريث العرش البيزنطي بقدر أباطرة بيزنطة أنفسهم.

أما المرأة العثمانية فقد احتلت موقعا فريدا في ذلك التاريخ، كما تقول المؤلفة، إذ كانت تمتلك حقوقا أكثر مقارنة بنظيراتها في أوروبا، فتمتعت بحقوق الملكية والطلاق وحضانة الأطفال. وفي خضم الحياة اليومية، كانت النساء ترتدي السراويل الفضفاضة (السلوار الفضفاض) مثل الرجال، وتمكنت العديد منهن من القتال جنبا إلى جنب معهم، بحسب المؤلفة.

مصطفى كمال أتاتورك أعاد تعريف الهوية التركية بشكل مختلف لا ينتمي لإرث العثمانيين بقدر ما ينتمي لزمن الحرب العالمية الأولى (غيتي)

صورة شائهة

وعلى الصعيد السياسي والثقافي، ظلت صورة العثمانيين تشوّه عمدا في الخطاب الغربي الذي وصفهم مرارا بالأتراك “البربر”. وذلك رغم أن الإمبراطورية لم تعرف نفسها بهذه التسمية قط (التركية)، بل استخدمت كلمة “ترك” بازدراء لوصف الفلاحين الأميين، بينما كانت المناصب العليا تمنح على أساس الجدارة، بغض النظر عن العقيدة أو العرق، مما أضاف تنوعا حقيقيا في الحكم، كما تقول المؤلفة.

أما تركيا الحديثة التي قاد تحولاتها “القائد العثماني السابق” مصطفى كمال أتاتورك، فقد أعادت تعريف الهوية التركية بشكل مختلف لا ينتمي لإرث العثمانيين بقدر ما ينتمي لزمن الحرب العالمية الأولى؛ فقد طردت اليونانيين، وحظرت اللغة الكردية، وأصرت على وحدة لغوية وثقافية، فكانت تلك رؤية معاكسة تماما لما مثلته الدولة العثمانية من تنوع وتعايش، كما تقول الكاتبة.

وتعتبر دارك أن نظرة الأوروبيين للأناضول العثمانية كانت دائما تتمثل في “امتصاص فوضى الشرق الأوسط”، كما هو الحال اليوم مع اللاجئين السوريين (صدر الكتاب قبل سقوط حكم عائلة الأسد). وتتساءل المؤلفة: هل أدرك الأوروبيون يوما أن العثمانيين لم ينظروا إلى أنفسهم كجسر بين الشرق والغرب، بل كانوا قوة مستقلة ترفض أن تكون مجرد إسفنجة أو حاجز؟ هذا ما يجعل قصتهم ممتدة في التاريخ، متجاوزة التصورات النمطية، مخلفة إرثا متشابكا يستحق الاستكشاف.




الجدير بالذكر أن خبر “إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الشرق والغرب” تم نقله واقتباسه والتعديل عليه من قبل فريق اشراق العالم 24 والمصدر الأصلي هو المعني بما ورد في الخبر.
اشترك في نشرة اشراق العالم24 الإخبارية
الخبر لحظة بلحظة
اشرق مع العالم

اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading