الجزيرة نت

تاريخ مفقود.. ماذا سيحدث حينما تنقرض نصف لغات العالم؟ | علوم


إذا فكّرنا قليلًا في أحدث الأرقام المنشورة على قاعدة البيانات اللغوية “إثنولوج”، المهتمة بإحصاء أعداد متحدثي جميع اللغات الإنسانية الحية، فسنكتشف أن الدول القومية البالغ عددها 190 دولة تضم نحو 7168 لغة حية. هذا التفاوت الكبير بين عدد الدول وعدد اللغات الحية له دلالات واضحة، إذ يُظهِر أن معظم الحكومات تدعم لغة رسمية واحدة أو عدة لغات فقط، وهو ما يعني أن غالبية اللغات الحية في العالم لا تحظى بالدعم الرسمي، ومن يستخدمون هذه اللغات هم مجتمعات أقدم بكثير وأكثر محلية من الدول القومية، ويُعدُّ هذا التفاوت بين عدد الدول وعدد اللغات أحد العوامل التي سيتمخض عنها تحول كبير في الوعي البشري على مستوى العالم. وبالتالي تُعتَبر النتائج المترتبة على ذلك خسارة كبيرة في التنوع اللغوي.

وفي ظروف كهذه، من الطبيعي أن يراود علماءَ اللغة شعورٌ بالقلق الشديد إزاء حقيقة أن نصف اللغات البشرية -على الأقل- أصبح مُهدَّدًا بالاندثار. ويتحدث بهذه اللغات أقل من 10,000 شخص، بل إن مئات منها يتحدث بها أقل من عشرة أشخاص في العالم، وأغلب الظن أن هناك لغات عديدة لا يتحدث بها سوى شخص واحد فحسب على ظهر هذه البسيطة (فضلا عن أن الوضع أكثر سوءًا بالنسبة للغات الإشارة البالغ عددها 157 لغة حول العالم وفقا لإحصائيات قاعدة البيانات إثنولوج. وكما هو واضح، تواجه لغات الإشارة تهديدًا أكبر بالاندثار مقارنة باللغات المنطوقة).

وفي المقابل سنجد عددا هائلا من متحدثي اللغات الكبرى مثل العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والهندية، والصينية، والإسبانية، في حين تتلاشى اللغات الأقل شهرة بمرور الوقت. وفقًا لأحد التقديرات، فإن 96% من سكان العالم يتحدثون 4% فقط من جميع اللغات، والعكس صحيح أيضا. إذا انتبهنا إلى النسبة قليلًا، فسنكتشف أيضًا أن 4% فقط من سكان العالم يتحدثون 96% من جميع اللغات.

إن التنوع اللغوي على غرار التنوع البيولوجي، ليس موزعًا بالتساوي في جميع أنحاء العالم، إذ يبدو في أقوى حالاته في بعض المناطق مثل بابوا غينيا الجديدة (ثاني أكبر الجزر في العالم، وتقع في جنوب غرب المحيط الهادئ *)، وأفريقيا الاستوائية، وغابات الأمازون، وجبال الهيمالايا. في هذه المناطق، ساهم البُعد عن السلطة المركزية أو الدول القوية، والاعتماد على الاقتصادات المحلية البسيطة والمجتمعات الصغيرة، في حفظ وبقاء التنوع اللغوي المحلي حتى وقت قريب. لكن اليوم، تحولت مناطق مثل جاكرتا في إندونيسيا، ولاغوس في نيجيريا، ولندن، ونيويورك، وباريس إلى مدن تستقبل تدفقات هائلة من الهجرة الواسعة.

يتجمع الناس من مختلف أنحاء العالم في هذه المدن للعمل، والتعليم، والحصول على الخدمات، أو باعتبارها فرصة للنجاة والاستمتاع بالحياة العصرية. ورغم أن نيويورك تُعتَبر اليوم المدينة الأكثر تنوعًا في العالم من الناحية اللغوية، فإن بقاء هذا التنوع اللغوي في مثل هذه المدن والبوتقات المتعددة الثقافات لم يعد مضمونًا (فقد تؤدي عمليات الاندماج والتكيف إلى تراجع استخدام اللغات الأقل انتشارًا لصالح اللغات الأكثر شيوعًا*).

التنوع اللغوي على غرار التنوع البيولوجي، ليس موزعًا بالتساوي في جميع أنحاء العالم (بيكساباي)

على الجانب الآخر، لا يمكن اعتبار اندثار اللغات أمرا جديدا، فلطالما تأرجحت اللغات بين مرحلتي الظهور والاختفاء على مر الزمن. أحيانًا كان يستمر بقاء بعض اللغات عدة أجيال حتى مع وجود أعداد صغيرة جدًّا من المتحدثين بها، وذلك عكس ما يحدث الآن، فقد بلغ معدل الفقد الحالي للغات نسبة غير مسبوقة تعادل تقريبًا نسبة فقد الأنواع الحيوانية والنباتية على الكوكب. ولمعرفة بداية اندثار هذه اللغات، سنحتاج إلى العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا.

فمع انتشار الزراعة المستمرة على مدى آلاف السنين، تمكنت بعض المجموعات التي كانت تتحدث لغات معينة من زيادة أعدادها نتيجة لاعتمادها على الزراعة، بجانب استيطانها المناطق الجديدة التي كانت قبل ذلك مأهولة بمجموعات لغوية أصغر حجمًا وأكثر تنوعًا مثل الصيادين والبدو، وهو ما أدى إلى الاندثار التدريجي للغة الصيادين والبدو.

أما في العصر الحديث، فيعزى الفقدان المتسارع للغات إلى فتوحات الإمبراطوريات الاستعمارية، والتوسع الحضري المُفرط، والشبكات المتنامية للرأسمالية، والضغوط الوطنية التي تفرض استخدام لغة واحدة. ومع انتشار أنظمة التعليم الرسمي والأشكال الجديدة التي تبنتها وسائل الإعلام والاتصالات، أصبح من الصعب على اللغات الصغيرة الصمود طويلا في وجه عالم متغير باستمرار.

الحفاظ على اللغة الأم

في أغلب الأوقات، لا يُعير المتحدثون باللغات السائدة اهتماما كبيرا لقضية انقراض اللغات الصغيرة، ودائمًا ما يتساءلون: “ألن يتحول العالم إلى واقع أفضل إذا فهم الجميع بعضهم بعضًا؟” لكن هذا النوع من التفكير يغفل عن حقيقتين؛ الأولى هي أن التحدث باللغة ذاتها لا يضمن بالضرورة الفهم المتبادل أو السلام بين الأفراد الذين يتحدثون بها، بل يمكن لفتيل النزاعات والعنف أن يشتعل بين أفراد يتحدثون لغة واحدة.

أما الحقيقة الثانية، فهي التغافل عن الفوائد العلمية والفنية والإنسانية العميقة للتنوع اللغوي. في كتابه “عدد لا يُحصَى من الألسنة: كيف تُزيح اللغات الستار عن الاختلافات في طريقة تفكيرنا” In A Myriad of Tongues: How Languages Reveal Differences in How We Think، يتحدث عالم الأنثروبولوجيا اللغوية كاليب إيفريت، عن مدى ثراء هذه اللغات المُهددة بالانقراض، إذ يرى أنها لا تُمثل مجرد لهجات بدائية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، لأنها ببساطة لغات زاخرة بالأدب الشفهي، والمعرفة التاريخية والعلمية، والخصائص اللغوية الفريدة، وغيرها من العجائب الأخرى التي نادرًا ما تمكن ترجمتها كلّها إلى لغات أخرى.

في السياق ذاته، تُشير مجموعة متزايدة من الأبحاث إلى أنه من الأفضل للأطفال أن يتعلموا بلغتهم الأم، وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يعود بفوائد عظيمة على صحتهم العقلية والجسدية، كما أن الحفاظ على اللغات في حد ذاته يحمل بُعدًا أخلاقيًّا، نظرًا إلى تاريخ النزوح والاضطهاد والتهميش الذي يعاني منه معظم المتحدثين باللغات المُهدَّدة بالانقراض.

لكن في النهاية، لا يمكن اعتبار اندثار أي لغة أمرًا حتميًّا. فإذا توفر الدعم السياسي من الحكومات المحلية أو الوطنية، وخُصّصت موارد اقتصادية، حينها ستتمكن أي لغة من مواجهة التهديدات والإغراءات والضغوط التي تدفع الناس إلى تعلم واستخدام لغات أكثر انتشارًا لتلبية احتياجات التواصل في الحياة اليومية، وما يصاب ذلك من توحيد الهويات الوطنية وضغوط العولمة. ومع ذلك، لا تحظى معظم اللغات بهذا النوع من الدعم، وهو ما يؤدي بدوره إلى فقدان اللغة باعتماد الشباب طرق تواصل جديدة تختلف عن تلك التي يستخدمها المسنّون.

تُشير مجموعة متزايدة من الأبحاث إلى أنه من الأفضل للأطفال أن يتعلموا بلغتهم الأم، وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يعود بفوائد عظيمة على صحتهم العقلية والجسدية (بيكساباي)
تُشير مجموعة متزايدة من الأبحاث إلى أنه من الأفضل للأطفال أن يتعلموا بلغتهم الأم، وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يعود بفوائد عظيمة على صحتهم العقلية والجسدية (بيكساباي)

يُخالج المتحدثين باللغات الأقل انتشارًا شعورٌ بالتهميش وعدم الانتماء إلى هذا العالم الذي تمادت اللغات السائدة في التوغل فيه بقوة، فلم يعد الأمر مقتصرًا على أن الوصول إلى الوظائف والمدارس والفرص الأخرى أصبح مرتبطا باللغات السائدة مثل الإنجليزية، والصينية (الماندرينية)، والإسبانية فحسب، بل ازداد الأمر سوءًا بعدما أصبح يراود السكانَ الأصليين في أميركا الشمالية شعورٌ بالخجل من التحدث بلغاتهم الأم مثل الكِرِي (Cree)،  والناواتل (Nahuatl)، ولغة تشوانغ (Zhuang) التي تتحدث بها أقلية عرقية في الصين. وشعورهم المستمر بالخجل من لغتهم هو ما أدى في النهاية إلى سقوطهم في هاوية الشعور بالخجل من هويتهم الذاتية.

تواجه مثل هذه اللغات معارك شاقة في محاولة منها للبقاء والاستمرار. ورغم أنها تمثل نصف لغات العالم، فإنها مع ذلك تُعتَبر الأقل توثيقًا ومعرفة، إذ لا يعرفها سوى القليل من البشر، وليست موثّقة إلا في عدد قليل من الكتب أو التسجيلات، إن وُجِدت أصلًا، وفي أحيان أخرى قد لا يتوفر سوى قائمة بسيطة من الكلمات لتوثيق تلك اللغات. لكن في العقود القليلة الماضية، بدأت جهود جادة ومنظمَّة بين اللغويين لتوثيق اللغات المُهدَّدة بالانقراض وتطوير مجموعة من الممارسات والبروتوكولات والأدوات لهذا الهدف المنشود. وفي الوقت ذاته، يبذل المتحدثون بتلك اللغات أيضًا جهودًا مُضنية للحفاظ عليها في محاولة منهم لاستعادة لغتهم أو إحيائها من جديد. وبالفعل نجحت هذه الحركة -التي تضم مئات المجتمعات حول العالم- في اكتساب زخم سياسي كبير على المستوى العالمي.

اختلاف مفهوم الزمن

يرسم  إيفريت في كتابه “عدد لا يُحصَى من الألسنة”، التنوع الهائل للغات العالم. فمعظمها ينتمي إلى واحدة من مئات العائلات اللغوية الكبرى، مثل الأسترونيزية (وهي إحدى العائلات اللغوية الواسعة الانتشار في أجزاء كثيرة من جزر جنوب شرق آسيا وفي المحيط الهادئ وبأعداد ضئيلة في قارة آسيا*)، والهندو أوروبية (التي تشمل الإنجليزية) والنيجر-كونغولية. ومع ذلك، يوجد أيضًا ما يزيد على مئة لغة “منعزلة” ليس لها أي صلة مؤكدة بأي لغة أخرى معروفة. عادةً ما تنحدر العائلات اللغوية من أصل مشترك للغة بدائية من المفترض أن تاريخها يعود إلى آلاف السنين، لكن ما قد نسهو عنه أن اللغات تُطور أيضًا سمات وبنى هيكلية مستقِلّة، فتتغير أو تكتسب خصائص جديدة من خلال تفاعلها واتصالها بلغات أخرى.

ويقدِّم إيفريت وصفًا مُعقدًا لكيفية بدء الباحثين من خلال الاعتماد أخيرًا على عينة من لغات العالم -أكثر تمثيلا للواقع- في الكشف عن أواصر بين اللغة والفكر والجوانب الأخرى من التجربة الإنسانية. ومع تراجع التنوع اللغوي، سيخسر العالم الطرق المختلفة والدقيقة التي تتفاعل بها المجموعات البشرية مع بيئاتها الطبيعية والاجتماعية لفهم عوالمها.

لا يمكن للترجمة دائمًا سد الفجوة بين اللغات بصورة كاملة. ورغم وجود ميول وتشابهات بين اللغات، فلن تجد لغة واحدة يمكن أن نُطلق عليها “لغة الأرض”، أو لغة مشتركة لجميع سكان الأرض، كما لا توجد رؤية لغوية “من العدم”، فكل لغة تحمل في طياتها خصائص مكان وتاريخ معينين. ومن جانبه، يرى إيفريت أن اللغات المختلفة تُشفِّر “التجربة الإدراكية البشرية” وتؤثر فيها بطرق مختلفة.

يحاول إيفريت خلال كتابه مناقشة هذا الموضوع بحذر واستخدام عبارات دقيقة تعتمد على الأدلة التجريبية لتجنب الوقوع في الجدل الكلاسيكي المتعلّق بفرضية سابير-وورف، التي تنص على أن “اللغة التي يتحدث بها الفرد يمكن أن تؤثر في كيفية تفكيره في أمور ليست لغوية بحتة.” بمعنى أن اللغة لا تؤثر فقط في كيفية التعبير عن الأفكار بالكلمات، بل يمكنها أن تشكِّل أيضًا الأفكار نفسها والطريقة التي يفهم بها الشخص العالم من حوله. استمر النقاش حول هذه المسألة ما يقرب من قرن من الزمان، فرأى العديد من غير اللغويين أن الفرضية تحتوي على قدر من الفطرة السليمة، وقاوم معظم اللغويين هذه الفرضية باعتبارها ادعاءً لا يمكن اختبار مدى صحته بسهولة، إضافة إلى أنه مفرط في التبسيط.

مؤخرًا، اعتمد إيفريت على العشرات من الدراسات الحديثة التي تشير إلى الطرق المختلفة والجذرية التي تتعامل بها اللغات مع مفاهيم مثل الزمان والمكان والعلاقات، وكيف يمكن لهذه الاختلافات أن تظل مترسبة في العقول والثقافات حتى بعد الانتهاء من الحديث. وعلى نحو أكثر تخمينًا، يرى إيفريت أن ثمة روابط مثيرة للاهتمام بين الخصائص اللغوية وبعض البيئات الطبيعية وأنماط الحياة المرتبطة بها. بعبارة أخرى، قد يكون الاعتقاد القديم بأن شعب الإنويت (الإسكيمو) لديه 50 كلمة لوصف الثلج مبالغًا فيه إلى حد كبير (فقد أشار عالم الأنثروبولوجيا فرانز بواس إلى وجود أربع طرق فحسب يستخدمها هذا الشعب في الأصل لوصف الثلج). ورغم أن الرقم 50 قد يكون مبالغًا فيه بعض الشيء، فإن هناك جزءًا من الحقيقة في هذه الفكرة يدعو إلى التأمل.

فلنأخذ مفهوم الوقت أو الزمان على سبيل المثال. ادّعى عالم اللغويات بنجامين وورف (صاحب فرضية سابير وورف) أن لغة قبيلة الهوبي (وهي إحدى قبائل سكان أميركا الأصليين*) الموجودة بأريزونا حاليًّا، لا تحتوي على كلمات تشير إلى الزمن. مما يوحي بأن المتحدثين بهذه اللغة قد لا يختبرون الوقت بالطريقة ذاتها التي يشعر بها المتحدثون بالإنجليزية. ورغم أن هذه الحقائق لا تزال محل جدل كبير، فإن العديد من اللغات سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تتعامل مع مفهوم الزمان على نحوٍ مختلف، فهي إما أن تستغني عنه تمامًا أو تُعيد تقسيمه بطريقة أخرى تختلف عن الماضي والحاضر والمستقبل.

وأقرب مثال على ذلك هو لغة “الكاريتيانا(Karitiana) “، وهي لغة أمازونية تميّز بين زمنين فقط، المستقبل وغير المستقبل، ويخلط الأخير الماضي بالحاضر. أما لغة “الياغوا” ((Yagua، التي تُعتبر أمازونية أيضًا فتتضمن ثمانية أزمنة، خمسة منها تشير إلى فترات مختلفة في الماضي. ولكي يُجيد التحدث بلغة الياغوا، يحتاج المرء إلى فهم دقيق للزمن للتعبير عنه. فمثلًا عند إضافة لاحقة (siymaa) إلى الأفعال، فذلك يعني أنها وقعت في الماضي في مدة تتراوح بين أسبوع وشهر تقريبًا.

يزداد الأمر تعقيدًا حينما نتحدث عن الاستعارات العديدة للزمن في اللغات المختلفة. إذ يتعامل المتحدثون باللغة الإنجليزية (والعربية*) مع المستقبل باعتباره أمامهم مكانيًّا. بمعنى آخر، يُعتبر المستقبل في تصوراتهم واتجاهاتهم اللغوية والمكانية كأنه شيء موجود أمامهم، والماضي خلفهم، في حين يتعامل المتحدثون بلغة الأيمارا في بيرو وبوليفيا مع المستقبل كأنه خلفهم والماضي أمامهم. تشير الإيماءات المرتبطة بهذه التعبيرات إلى أن مثل هذه المفاهيم قد تتسرب إلى الفكر. بمعنى أن المتحدثين باللغة الإنجليزية -على سبيل المثال- غالبا ما يشيرون إلى الخلف في مناقشة الماضي، بينما يحدث العكس عند متحدثي لغة الأيمارا. أما عندما يتعلَّق الأمر بالمكان، والألوان، وتصنيف الأسماء، وصلة القرابة، والجنس، والشكل، فذلك مستوى مختلف من التعقيد. تمتلك لغة برينمو في بابوا غينيا -على سبيل المثال- كلمة “nol”، التي تشير إلى اللونين الأخضر والأزرق، كما أن متحدثي لغة برينمو يستعملون كلمة مثل “wor”، للإشارة إلى اللونين الأصفر والأخضر الفاتح.

وللتأكد من ذلك، أجرى العلماء تجربة لاختبار قدرة متحدثي لغة برينمو ومتحدثي الإنجليزية على تذكر رقائق الألوان المختلفة. وأظهرتْ نتائج التجربة أن كل مجموعة كانت أفضل في تذكر الرقائق التي تتماشى بوضوح مع الفئات اللغوية الخاصة بها لفهم الألوان مقارنة بالرقائق التي كان لونها أشد غموضًا، وهو ما يُسمَى “بالإدراك التصنيفي القائم على اللغة، بمعنى أن الناس يستطيعون تمييز الأشياء (المحفزات) بدرجة أوضح وأدق عندما تتوافق هذه الأشياء مع الفئات أو التصنيفات الموجودة في لغتهم. بمعنى آخر، إذا كانت لغتهم تضم كلمات وتصنيفات مُحددة لأشياء معينة، فسيتمكنون على نحوٍ أفضل من تمييز هذه الأشياء مقارنة بأشياء أخرى لا تصنّفها لغتهم بوضوح. على الجانب الآخر، يعترف إيفريت بأن مدى تأثير الاختلافات اللغوية في الحياة اليومية يُعَد مسألة معقدة ومثيرة للجدل. فبينما تعكس بعض المفردات المختلفة الأولويات البيئية والثقافية بسهولة، تظل الاختلافات النحوية العميقة عصية على التفسير بالسهولة ذاتها.

صحيح أن بعض الاختلافات اللغوية، مثل مستويات الأدب أو الاتجاهات، يمكن تفسيرها من خلال العوامل الاجتماعية والبيئية، إلا أن بعض الاختلافات بين اللغات، مثل جمع الأسماء في اللغة الإنجليزية وعدم جمعها في لغة الماندرين، تُعتبر تفاصيل عشوائية نشأت في تاريخ هذه اللغات ولا تُفضي إلى أي آثار أو نتائج تتجاوز الجانب اللغوي في حد ذاته (بمعنى أن هذه الاختلافات ليست ناتجة عن عوامل ثقافية أو معرفية عميقة وليس لها تأثير في كيفية تفكير أو سلوك المتحدثين بها*). وبالتالي، فإن التعميمات العلمية الزائفة يمكن أن تأخذ منحنى خطيرًا إذا حاول الناس إسقاط معانٍ عميقة أو ثقافية على اختلافات لغوية معينة من دون وجود دليل علمي قوي؛ ففي هذه الحالة قد ينتهي بهم المطاف إلى استنتاجات مُضللة. في النهاية، إذا اعتقد الناس أن متحدثي لغة الهوبي ليس لديهم مفهوم للزمن، في حين أن متحدثي لغة الياغوا لديهم فهم متقدم للغاية للزمن، ومتحدثي الإنجليزية في مكان ما في الوسط؛ فذلك تعميم خاطئ ومُضلل بصورة لا يتطرق إليها التردد. فالممارسات اللغوية الفعلية متنوعة وديناميكية للغاية، وتعتمد على السياق والظروف الفردية، ولا يمكن تعميمها بهذا الشكل.

يشير كتاب “عدد لا يُحصى من الألسنة” إلى أن هناك بعض الارتباطات بين اللغة والثقافة والفكر. فعلى سبيل المثال، قد يميل المزارعون الذين يتبعون نظاما غذائيا أكثر ليونة، ويتميزون بأسنان علوية أكثر بروزًا مقارنة بأسنانهم السفلية، إلى استخدام أصوات مثل “f” و”v”، وهي أصوات تجمع بين الأسنان الأمامية العلوية والشفة السفلية، بينما يستخدم الصيادون وجامعو الثمار هذه الأصوات بنسبة أقل، وذلك نظرًا إلى اختلاف شكل أسنانهم. وفي وقتٍ ما، ساعد استخدام الأصباغ التجارية في المجتمعات الغربية المتقدمة على تمييز الألوان بصورة أفضل وتوصيفها بدقة أكبر، وهو ما أسفر عن زيادة عدد الكلمات المستخدمة لوصف الألوان في اللغة. وكذلك، ساهمت طرق الصيادين وجامعي الثمار للبقاء على قيد الحياة، في إثراء مفرداتهم اللغوية التي تصف الروائح. فمثلًا تضم لغة تشابالا في الإكوادور 15 مصطلحًا مجردًا لروائح مختلفة.

هناك بعض الارتباطات بين اللغة والثقافة والفكر (بيكساباي)
هناك بعض الارتباطات بين اللغة والثقافة والفكر (بيكساباي)

 

اللغة لهجة تضم جيشًا وأسطولًا

إن لغات مثل الأيمارا ،والبيرينمو، والتشابالا، قد تكون مثيرة للاهتمام بالنسبة للغويين وعلماء الإدراك بسبب ميزاتها الفريدة، ورغم ذلك لا يمكن اختزالها في صورة مجموعة من الخصائص الغريبة التي تنتظر أن تُعرَض في متحف مستقبلي للغات العالم، أو في أحد الأرشيفات الرقمية الجديدة حيث يودع اللغويون تسجيلاتهم لهذه اللغات. ربما لا يَرِد إلى أذهاننا أن لغات مثل هذه تُعتبر رموزًا لتجسيدات الهُوية والانتماء الجماعي لمتحدثيها، فكل سِمة فيها مهما بدت عشوائية تحمل معانيَ سياسية هامة.

ومن المهم أيضًا إدراك أن كل لغة تواجه تحديات مختلفة تبعًا لظروفها الخاصة. فالضغوط التي تتعرض لها لغة البيرينمو التي يتحدث بها بضع مئات من الأشخاص في قريتين موجودتين في بابوا غينيا الجديدة، تختلف بالطبع عن تلك التي تواجهها لغة التشابالا التي يتحد بها عدة آلاف من الأشخاص في منطقة الغابات المطيرة، أو لغة الأيمارا التي يتحدث بها نحو ثلاثة ملايين شخص في عدة دول.

“اللغة هي لهجة تضم جيشًا وأسطولًا بحريًّا”، كان أول من تفوه بهذه العبارة اليديشية الشهيرة، مدرس مغمور في مدرسة ثانوية في برونكس بنيويورك أثناء حديثه مع عالم اللغويات ماكس واينريتش في الأربعينيات. واشتهرت هذه العبارة لقدرتها على إبراز كيف يمكن في بعض الأحيان تفضيل وتطوير بعض أنواع اللغات على غيرها، وهذا ليس بناءً على المعايير اللغوية مثل القدرة على الفهم المتبادل، ولكن بناءً على القوة السياسية والعسكرية. وتمثلتْ إحدى المفارقات العجيبة في أن المعلِّم نفسه لم يكن مدركًا أن لغته الأم لها تاريخ ويمكن استخدامها في أمور أسمى من مجرد الأساسيات اليومية والتواصل الشفهي.

والآن، يبدو بوضوح -أكثر من أي وقت مضى- كيف تفاقمت الفجوات اللغوية نتيجة لتفاوت الفجوات العالمية في التنمية والثروة والفرص. يتعرض المتحدثون باللغات المهددة بالانقراض إلى المزيد من التهميش مع الاستيلاء على أراضيهم أو جعلها غير صالحة للسكن جرّاء التغيّر المناخي. وعادة ما يظهرون في وضع اقتصادي أو اجتماعي ضعيف، ويواجهون التهميش والفقر. ومع انتشار محو الأمية، والتعليم الرسمي، ووسائل الإعلام، والتكنولوجيات الجديدة، تمكنت بضع مئات من اللغات التي تتمتع بوضع رسمي وشكل من أشكال الدعم الحكومي من إنقاذ نفسها قبل فوات الأوان.

وقد توصلتْ إحدى الدراسات إلى أن أقل من 5% من جميع اللغات “تصعد” إلى العالم الرقمي، وتزدهر عبر الإنترنت وفي مجموعة من التقنيات الجديدة. أما بالنسبة إلى الـ95% من اللغات البشرية الأخرى، فقد تحتاج إلى الدعم إذا أرادت الاستمرار، خاصة تلك المعقَّدة منها على المستوى النحوي والإدراكي. ويتطلب التأكيد على فكرة أن اللغة ليس لها تاريخ فحسب، بل تتمتع أيضًا بمستقبل، جهودًا جماعية يمكن من خلالها تحريك المجتمع وتوجيه الاهتمام والدعم نحو هدف معين، وذلك بإيجاد ضغوط اجتماعية لدعم اللغة والتأكيد على أهميتها في المجتمع.

ومن جانبه، كتب المفكر السياسي ويل كيمليكا: “ينبغي أن تتمتع الأقليات القومية أو العرقية بنفس الفرص والوسائل التي تستخدمها الأغلبية القومية لبناء وتعزيز هويتها الوطنية”، وربما ترى العديد من الدول أنه من المناسب تقديم الاستقلال اللغوي والثقافي للأقليات طالما أن السيادة النهائية والقرارات الرئيسية لا تزال تتبع الحكومة الرئيسية في العاصمة”. لكن يبقى السؤال المهم: “إلى أي مدى يمكن لعملية تقديم الاستقلال اللغوي والثقافي للأقليات أن تستمر؟”. يشير عالم اللغويات جيرالد روش إلى أن الحركات اللغوية “غالبًا ما تتخذ شكلًا قوميًّا، وهو ما يُعيد إنتاج منطق شعب واحد بلغة واحدة على أرض واحدة، سعيًا للسيطرة على السلطة أو إيجادها لصالح أمتهم، وقمع لغات الأقليات الأخرى في العملية”. وأقرب مثال على ذلك هو حركة استقلال التبت (وهي حركة سياسية تعمل من أجل استقلال التبت وفصلها سياسيًّا عن الصين.(* ولكن جهود هذه الحركة لتعزيز وحماية اللغة الأم أو اللغة الوطنية بوصفها معيارًا للهوية الوطنية، غالبا ما تتجاهل اللغات أو اللهجات الأخرى التي قد تكون موجودة داخل البلد أو المجتمع.

لا يمكن اعتبار الحركات اللغوية أمرًا مستحدثًا، فقد كانت جزءًا أساسيًّا من معظم الحركات السياسية التي تشكِّل أساس الدول القومية المعاصرة. ورغم أن العالم يشهد صعوبة في ظهور دول جديدة، فإننا نشهد مع ذلك ارتفاعًا في حركات اللغة ردًّا على ضغوط التهديد بالاندثار، وغالبا ما يحدث ذلك تحت راية حقوق السكان الأصليين. وبالفعل تستجيب بعض الحكومات لهذه المطالب على الأقل بإجراءات رمزية، مثل تضمين اللغات في الدساتير، كما حدث في ألاسكا والجزائر على سبيل المثال.

وبالرغم من ذلك، يبدو أن المطالبة بالاعتراف باللغات ودعمها تتزايد باستمرار. في نهاية المطاف، لن تقاوم جميع الأقليات فكرة اندثار لغتها، ولن تتحول كل حركة لغوية بالضرورة إلى حركة سياسية تُفضي إلى الانفصال أو الصراع العرقي أو الحرب الأهلية. لكن على الأقل، تمكَّنت السياسات اللغوية من اكتساب أهمية أكبر من أي وقت مضى، وهو ما يتضح في النقاشات والمبادرات المتعلِّقة باللغة في عدة مناطق من العالم، مثل الكاميرون وكتالونيا وهونغ كونغ وأوكرانيا.

ومع عملية التحرر من الاستعمار، بدأت اللغات الكريولية (التي تتألف من خليط من بعض اللغات الأخرى*) الظهورَ مرة أخرى، واستعادة تأثيرها وأهميتها. وبجانب الجهود السياسية في جامايكا للخروج من الكومنولث البريطاني (الذي يتكون من 54 دولة، بعضها كانت خاضعة للإمبراطورية البريطانية، وأخرى لم تكن تحت الاستعمار البريطاني*)، بُذلت -على الجانب الآخر- جهودٌ للارتقاء بلغة “باتوا” وهي اللغة المحلية في جامايكا، التي كانت تتعرض في السابق إلى التمييز باعتبارها شكلا تالفًا أو مشوهًا من الإنجليزية. وفي النهاية، لم تقتصر حركات اللغة الجديدة فقط على اللغات الكبيرة التي يتحدث بها مئات الآلاف من المتحدثين، بل شملت أيضًا مئات من المجموعات الصغرى التي تتعاون مع علماء اللغة وتستفيد من التكنولوجيا الجديدة، وتستمد إلهامها من حركات اللغة في القرن العشرين. لذا علينا أن نُدرك جيدًا أن اللهجات التي لا تضم جيوشًا ولا أساطيلَ هي الأكثر احتياجًا إلى الدعم.

_____________________________________________

* إضافات من المترجم

هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت



اقرأ على الموقع الرسمي


اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading