عالم غير قابل للعيش.. رسالة طوفان الأقصى التي لم تُقرَأ | سياسة
هناك رسائل كثيرة أرسلها “طوفان الأقصى”، بعد مضي أكثر من خمسة أشهر عليه، لكنها لم تُقرأ جيدًا، وفي أحيان لم يتم التقاطها بالكلية.
تبلور مع الطوفان الاتجاه التاريخي المتصاعد بأن قضية الفلسطينيين لم تعد قضية العرب والمسلمين الأولى، بالرغم مما أظهرته استطلاعات الرأي من تعاطفهم ومساندتهم لها. هي مساندة تبدو ضعيفة وبلا فاعلية، في حين يبدو تحولٌ كبيرٌ لدى قطاعات من الرأي العام العالمي -خاصةً في الغرب- تجاه القضية، بالإضافة إلى مساندة كثير من دول الجنوب، مما يمكن معه القول؛ إنّ القضية الفلسطينية صارت قضية الفلسطينيين أولًا، وقضية العالم الآن.
هذا التحول سيكون له تداعيات إستراتيجية كبيرة في المستقبل القريب، خاصةً بعد أن تحولت الحرب على غزة إلى مرآة تعكس مجمل الأزمات التي تعاني منها قطاعات متّسعة من البشر في كوكبنا، مما يمكن معه القول؛ إن القوى والحركات التي تساند الفلسطينيين ضد حرب الإبادة يرون فيها -كلٌ من زاويته- معاناته الذاتية.
إن النزعة القومية المتطرفة، وعدم المساواة في الدخول والفرص والثروات، والعسكرة المفرطة، وانتشار الفساد، وتفشي العنصرية العابرة للحدود الوطنية، ومعاداة الأجانب، وتصاعد اليمين، وعدم المساواة بين الجنسين، وتراجع الحرية، وتزايد الهشاشة الاقتصادية لفئات عريضة من السكان، وغياب الشفافية والمساءلة، وتآكل النظام الدولي القائم على القواعد.. أصبحت سمات مثيرة للقلق في هذا القرن.
يؤثّر الوباء بشكل غير متناسب على الفقراء والمهمّشين، فإن الفساد يؤثر بشدّة على أولئك الذين لديهم أقلّ قدر من الوصول إلى الضروريات الأساسية، بينما تستغلّ النخبة أنظمة العدالة
الحرب آخذة في الارتفاع في كل مكان. عندما نشرَ المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن مسحه الرسمي للنزاعات المسلحة في أوائل ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي؛ أحصى 183 صراعًا على مستوى العالم في عام 2023، وهو أعلى مما تم تسجيله منذ 30 عامًا. إن العالم ككل أصبح مكانًا أكثر عنفًا مما كان عليه منذ 30 عامًا على الأقل. ووَفقًا لبعض المقاييس، أصبحت البلدان مليئة بالصراعات أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الصراع بين الجماعات المسلحة غير الحكومية، مثل العصابات، زاد بأكثر من ثلاثة أضعاف، وفقًا لبرنامج أوبسالا السويدي لبيانات الصراع، منذ أدنى مستوياته في عام 2007. وقد تضاعف العنف الذي تمارسه القوات الحكومية ضد المدنيين منذ عام 2009، وتتزايد محاولات الاغتيال للسياسيين والمعارضين.
في عام 2011؛ كان هناك ما يقرب من 40 ألف حالة وفاة، بسبب الحروب في جميع أنحاء العالم، لكن وفقًا لتقديرات أوبسالا لعام 2022 فقد تجاوز العدد 238 ألفًا، أي بزيادة ستة أضعاف تقريبًا.
أصبحت الانقلابات أكثر شيوعًا: فقد استولت تسعة أنظمة على السلطة بالقوة منذ عام 2020. إن عدد الحكومات التي تسقط تحت سيطرة عسكرية في منطقة واحدة يفوق عدد الحكومات التي سقطت خلال الربيع العربي في 2011/2010، أو الثورات الملونة في العقد السابق، حيث سقطت في كل منهما أربع حكومات فقط.
وجد تقرير “الحرية في العالم” الأخير من فريدوم هاوس أن 80 بالمائة من سكان العالم لا يعيشون في بيئة بلد حر.
إن الأزمات العالمية مثل الوباء وتغير المناخ مدمِّرة في حد ذاتها، ولكنها تؤدي أيضًا إلى تضخيم مشكلاتنا الهيكلية المتأصلة، وخاصة عدم المساواة والعنصرية وتأثيرات الفساد واستيلاء النخبة والاستبداد في جميع أنحاء العالم.
يُظهر مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2023 أن الفساد العالمي آخذ في الارتفاع. وعلى مقياس من صفر إلى 100، يستقر المتوسط العالمي عند 43، مع عدم إحراز معظم البلدان أي تقدم؛ وتراجعت 23 دولة إلى أدنى درجاتها في العام الماضي.
وكما يؤثّر الوباء بشكل غير متناسب على الفقراء والمهمّشين، فإن الفساد يؤثر بشدّة على أولئك الذين لديهم أقلّ قدر من الوصول إلى الضروريات الأساسية، بينما تستغلّ النخبة أنظمة العدالة.
تزايدت فجوة التفاوت في الدخل في معظم الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الناشئة الكبرى. وفقًا لتقرير “تزايد فجوة التفاوت” الصادر عن معهد بروكينغز في العام الماضي.
في جميع أنحاء العالم، يتصاعد القمع، ويستغل المستبدون التكنولوجيات الرقمية الجديدة لسحق المعارضة في الداخل، وزرع المعلومات المضللة في الخارج، وتصاعدت الصراعات العنيفة داخل الدول وبينها، مصحوبة بانتهاكات واسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي، وإفلات مرتكبي جرائم الحرب من العقاب. وتكافح المؤسسات الدولية القائمة لحماية الحقوق الراسخة، وتكييف مبادئ الكرامة الإنسانية مع التهديدات العالمية الجديدة.
وتمتدّ هذه القضية إلى ما هو أبعد من دور المجمع الصناعي العسكري المتمثل في شركات السلاح وامتدادها في السياسة من خلال صنع القرار؛ بل يتعلق الأمر بالعنف الهيكلي الراسخ وهيمنة نموذج الدولة الأمنية.
العدوان على غزة كشف عن العطن والخلل في النظام الدولي لحقوق الإنسان، لكن هذا العطن ليس حديثًا وغير مرتبط فقط بوضعية إسرائيل. إن ترتيبات النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية تحمل بداخلها تناقضات تصبح معها ازدواجية المعايير وتسييس حقوق الإنسان أمرًا حتميًا في العلاقات الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان تتعامل مع هذا الواقع بتناقضاته.
نفس الأطراف التي تدعم اليوم الحق الفلسطيني هي ذاتها التي شاركت من قبل في التغطية على جرائم أخرى أو حماية جلادين، على سبيل المثال، جنوب أفريقيا كانت من المعارضين للمحكمة الجنائية الدولية، ومذكرة التوقيف التي صدرت في حق عمر البشير، وكانت ترى أن المحكمة تستهدف أفريقيا.
أوضح بايدن أن أوكرانيا كانت الجبهة المركزية في “معركة أكبر من أجل.. المبادئ الديمقراطية الأساسية”؛ لذا فإن الولايات المتحدة ستعمل على حشد العالم الحر ضد “أعداء الديمقراطية اللدودين”
النظام العربي أيضًا تورط ويتورط في ممارسة ازدواجية المعايير عربيًا ودوليًا – كيف تعاملت الدول العربية مع الجرائم ضد الإنسانية في حق الإيغور في الصين، أو المجاعة الحالية في السودان؟ روسيا والصين مارستا حق الفيتو أكثر من 14 مرة في عامين ضد أي قرار يتعلق بحقوق الإنسان في سوريا، كما قام النظام العربي بالمصالحة مع بشار الأسد، برغم ما اقترفه ولا يزال يقترف في حق السوريين من جرائم.
ما فعلته إسرائيل سبق أن مارسته البلدان العربية وبعض أنظمة الحكم فيها، لكن الجديد هو التواطؤ الغربي الواضح وغير الخفي المتمثل في مجمل النظام الغربي بمؤسساته وإعلامه وحكوماته.
بعد مرور 75 عامًا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أصبحت البشرية كلها في خطر. في جميع أنحاء العالم، يتصاعد القمع، ويستغل المستبدون التكنولوجيات الرقمية الجديدة لسحق المعارضة في الداخل، وزرع المعلومات المضللة في الخارج، وتصاعدت الصراعات العنيفة داخل الدول وبينها، مصحوبة بانتهاكات واسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي، وإفلات مرتكبي جرائم الحرب من العقاب. تكافح المؤسسات الدولية القائمة لحماية الحقوق الراسخة، وتكييف مبادئ الكرامة الإنسانية مع التهديدات العالمية الجديدة.
أسقطت الحرب على الفلسطينيين المقولة التي استخدمت لفترات طويلة للترويج للنظم الليبرالية وهي: أن مزيدًا من انتشار هذه النوعية من الأنظمة من شأنه أن يزيد من شيوع السلام في العالم. فها هي إسرائيل “الديمقراطية” وداعموها في الغرب من حكومات ليبرالية ترعى الإبادة الجماعية في غزة.
عزز الغزو الروسي لأوكرانيا هذه الأطروحة؛ فقد قُدمت باعتبارها دراسة حالة عن العدوان الاستبدادي والفظائع، وتحذيرًا من أن العالم الذي تقوده دول غير ليبرالية سيكون عنيفًا بشكل قاتل، وخاصة بالنسبة للديمقراطيات الضعيفة القريبة.
أوضح بايدن أن أوكرانيا كانت الجبهة المركزية في “معركة أكبر من أجل.. المبادئ الديمقراطية الأساسية”؛ لذا فإن الولايات المتحدة ستعمل على حشد العالم الحر ضد “أعداء الديمقراطية اللدودين”.
حشدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي القواعد والمؤسسات والأعراف العالمية لمقاومة العدوان الروسي. وفي غزة تم انتهاك هذه القواعد جميعًا، وتقويض مؤسسات الأمم المتحدة من قبل نفس الحكومات، وفي حين يتمسك الجنوب بالنظام القائم على القواعد، تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها من الحكومات الغربية بتقويض هذه القواعد.
إن الصراعات الجيوسياسية الآخذة في التوسع، والحروب الأهلية، والتراجع الديمقراطي في الديمقراطيات الكبرى، وتزايد الاستبداد، وكراهية الأجانب، وزيادة العنف السياسي، والتمييز المتزايد ضد الأقليات، كلها تشكل صورة العالم الذي سنشهده فيما تبقى من سِنِي هذا القرن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
اقرأ على الموقع الرسمي
روابط قد تهمك
مؤسسة اشراق العالم خدمات المواقع والمتاجر باك لينكات باقات الباك لينك
اكتشاف المزيد من اشراق العالم 24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.